بعد ست سنوات على مشاركته الأخيرة في مهرجان"تورتنو"السينمائي الدولي، يعود السينمائي الفلسطيني رشيد مشهراوي خلال أيام الى هذا المهرجان الكندي الطموح بفيلمه الروائي الجديد"عيد ميلاد ليلى". ولعل حظوظ الفيلم بالفوز، ترتبط في خروجه عن المألوف في السينما الفلسطينية، أسوة ببعض أفضل أفلام هذه السينما التي حققت أخيراً. ففي هذا الشريط الذي من المفترض ان يشارك أيضاً في مهرجان"سان سيباستيان"الإسباني خلال الشهر المقبل، وفي كانون الأول ديسمبر في مهرجان"الشرق الأوسط السينمائي"في أبو ظبي، لسنا أمام التاريخ الذي حفظه المشاهدون عن ظهر قلب لكثرة ما قدمته الشاشة الكبيرة... ولسنا أيضاً أمام النضال الذي يملأ أكثر من 70 في المئة من الأفلام الفلسطينية... إنما نحن بكل بساطة أمام فصل من فصول الحياة اليومية لشعب، قد يتعجب كثر في العالم إذ يعرفون أن له حياة يومية. كل هذا من خلال شخصية قاض، جعلته الظروف البيروقراطية سائق تاكسي. لكنه قاض مهما كانت الظروف، ويلعب دوره محمد بكري في احدث ظهور له على الشاشة الكبيرة. أما أحداث الفيلم فتدور في رام الله خلال يوم واحد، وتحديداً، حول قالب حلوى يريد سائق التاكسي/ القاضي أن يشتريه احتفاء بعيد ميلاد صغيرته."هذا برنامج القاضي، لكنّ للبلد برنامجاً آخر يتجلى على امتداد دقائق الفيلم التي تتجاوز السبعين دقيقة"، يقول رشيد مشهراوي نافياً ان يكون هذا الشريط توثيقاً للواقع الفلسطيني، ويضيف:"لم أعد أرضى بأن أصنع فيلماً روائياً لأسلط الضوء على الواقع. فهذه مهمة الأفلام الوثائقية او الكاميرا الصحافية. أنا اليوم أصنع أفلاماً لأن هناك ما أريد قوله. وما أريد ان أقوله في هذا الفيلم هو"خلص". أقولها للاحتلال ولأهل السياسية الفلسطينيين على حد سواء. للاحتلال الإسرائيلي الذي يزيد قوة من تشرذماتنا. وللساسة الفلسطينيين بمختلف أطيافهم إنهم أوصلونا الى اللامكان. ربما كان عند هؤلاء نيات طيبة. لكنني أتعامل مع النتيجة النهائية التي ألمسها في الشارع. وما أراه هو أننا اليوم اكثر تمزقاً وتشرذماً، وبدلاً من أن نسير الى الأمام نعود الى الوراء". تجديد... ولكن إذاً في هذا الفيلم يقول رشيد مشهراوي كلمته في الواقع الفلسطيني، ولكن بنفس مختلف عما اعتدناه في سينماه، إذ اختار هذه المرة الكوميديا أسلوباً. كوميديا تنبعث من عمق المأساة الفردية، وتضفي مسحة مختلفة على سينما فلسطينية تعبق بالتجهم الذي يتناسب مع حجم المأساة الدائمة في هذا البلد إذا استثنينا فيلمي ايليا سليمان الشهيرين،"سجل اختفاء"وپ"يد الهية". وليس جديداً على مشهراوي التجريب."فأنا أحاول مع كل فيلم أن يكون عندي اتجاه فني خاص مأخوذ من حكاية الفيلم"- يقول مشهراوي -"في"حتى إشعار آخر"، وبحكم ان الفيلم صوّر خلال قرار بمنع التجول، حرصت ان تكون الكاميرا ثابتة وكأنها مسجونة أيضاً، ما خدم فكرة السيناريو. وفي فيلم"حيفا"أردت ان اطرح فكرة اللاجئين أيام اتفاق أوسلو، وارتأيت أن يكون المخيم شخصية رئيسة مثله مثل الشخصيات الأخرى، عن طريق الألوان والديكورات وحركة الكاميرا". وإذا كان التجديد ميزة فيلم"عيد ميلاد ليلى"، فإن القاسم المشترك بين هذا العمل وسواه من أفلام مشهراوي هو انتماؤه الى سينما ملتزمة... يقول المخرج عنها:"حبذا لو كان لنا الخيار في تسخير السيناريوات لأفلام"طبيعية". لكن الواقع المأساوي يفرض ذاته، ويحرمنا من حقنا كسينمائيين برفع راية الفن للفن. ثم، أنا أؤمن أن في إمكان السينما أن تكون لاعباً مؤثراً في الصراع. من هنا أنا ضد أن تقف الكاميرا متفرجة. صحيح أنني في"عيد ميلاد ليلى"أحقق فيلماً كوميدياً، لكنه فيلم ملتزم. ففيه مشاهد كثيرة تضحك المشاهد، لكنها في الوقت ذاته تجعله يتساءل عما يضحك؟". أنسنة السينما ينتمي رشيد مشهراوي الى جيل من السينمائيين الفلسطينيين الذي حملوا بكاميراتهم همّ الوطن، وداروا به في المهرجانات العالمية، ما دفع كثراً الى التأكيد ان مع جيل مشهراوي وقفت السينما الفلسطينية على قدميها بعدما ظلت تراوح مكانها مع سينمائيين عرب. عن هذا الواقع يقول مشهراوي:"ميشال خليفي وأنا، أول من جسد الحالة الفلسطينية، وحرر السينما من عقدتها، بعدما تصدرت الشاشات صورة نمطية: صورة الفلسطيني المناضل، الفدائي، صاحب الحق وحلم الثورة حتى النصر. أما الفلسطيني الأب والأخ والزوج، فلا مكان له. وهنا اذكر مدى السخط الذي واجهته حين صورت قبل 15 سنة فلسطينياً عميلاً في أحد أعمالي. فهذه الشخصية مرفوضة تماماً في السينما، علماً أنها موجودة في الحياة، والجميع يعرف أن في غزة وحدها 50 ألف عميل. كما انني لا أنسى مدى الذهول الذي أصاب كثراً حين أنهيت فيلمي الوثائقي"دار ودور"بلقطة لرجل يذرف الدموع. ففي مجتمعاتنا الرجل لا يبكي. من هنا لا أنكر سعادتي بعدما تقبلوا الأمر حينما عرض الفيلم على الشاشات البريطانية والفرنسية، وأصدرت السفارة الإسرائيلية بيانات ضده. ففي هذا الفيلم اطرح مشكلة الإنسان الفلسطيني لا المناضل الفلسطيني، ولهذا وقع أكبر عند المتفرج، خصوصاً الغربي". وعلى رغم محاولات مشهراوي ورفاقه في أنسنة السينما الفلسطينية، سواء أخفقت هذه التجارب أو نجحت، لا يزال كثر يحيلون أي نجاح يحظى به فيلم فلسطيني في المهرجانات الدولية الى نوع من التعاطف مع القضية الفلسطينية، ويتوقعون على الفور حصوله على الجوائز حتى وإن كان ضعيف المستوى. ولهذا يشدد مشهراوي على ضرورة التمييز بين القضية الفلسطينية والسينما الفلسطينية، ويقول:"كل هذا الدعم غير الموضوعي للسينما الفلسطينية، خصوصاً في العالم العربي، يسيء الى هذه السينما التي اعتبرها بألف خير إذا قارناها مع سينمات عربية أخرى تعمل في ظروف طبيعية". ويعبّر مشهراوي عن رضاه من واقع السينما الفلسطينية، ويقول:"هناك تجارب لا بأس بها لشبان يحاولون أن يرسخوا أقدام السينما الفلسطينية الجديدة. وفي اعتقادي حتى لو كان ينقص هذه السينما المضمون أو الخط فإن التراكم في إمكانه أن يولّد حالة سينمائية. من هنا أتمنى أن نصبح جزءاً من السينما في العالم". ويضيف: آن الأوان للتعامل مع السينما كفن بصرف النظر عن القضية، مشيراً الى أن الفيلم الجيد بإمكانه أن يحرر الفلسطينيين من الاحتلال، بما أن السينما عابرة للقارات، وفي إمكانها أن تصل الى جميع الشعوب."فإذا حققت أنا أو سواي إنجازاً سينمائياً كبيراً، فهذا يعود للفلسطينيين أجمعين. وإذا اثبت أنني مثلي مثل أي سينمائي في العالم أستطيع أن أحقق أفلاماً يحسب لها حساب في خريطة السينما العالمية، عندها يحق لي أن يكون لدي دولة على الخريطة مثلي مثل أي إنسان آخر". لكنّ السينمائي الفلسطيني لن يكون في ظل الواقع الراهن مثله مثل أي سينمائي آخر. فالسينما تحت الاحتلال لا تشبه السينما في الظروف الطبيعية. وواقع السينمائي الذي يعمل في حقل الغام لا يشبه دربَ سينمائيّ مزروعة بالورود. حتى إن ظروف عمل أبناء البلد الواحد تختلف ان كانوا من فلسطينيي الداخل أو فلسطينيي الخارج. ففي حين يسهل حصول فلسطينيي 48 على تمويل، لا يجد الآخرون التجاوب ذاته. أما رشيد مشهراوي ابن غزة، فيقول إن من الصعب تحقيق فيلم سواء كان المرء من فلسطينيي الداخل أو الخارج. ويتذكر حادثة من حوادث كثيرة واجهها أثناء التصوير، فيقول:"لا يمكن أن أحصي المغامرات التي واجهتها خلال مشواري السينمائي. فمع تصوير كل فيلم يضاف الى سجلي حكايات وحكايات. أتذكر يوماً أنني عبرت الحاجز الإسرائيلي وتوجهت الى الناصرة وأنا في صندوق برتقال، كوني لم أكن أملك تصريحاً بالدخول". ويستطرد قائلاً: لم أضع يوماً خطاً أحمر على فلسطينيي 48. حتى انني في أول أفلامي استعنت بممثلين من الداخل مثل محمد بكري ومكرم خوري وسليم ضو. وهذا أمر إيجابي. فإذا كان الاحتلال يفرقنا جغرافياً، فإن الثقافة تصنع لحمة قوية في ما بيننا".