غير اعتيادي المشهد الرومنسي الذي حلّ على معبد باخوس ليلة السبت الأحد، حيث حرس القمر الحفلة الختامية لمهرجانات بعلبك لعام 2008، التي رسمت خطوطها الساحرة أنامل عازف البيانو والمؤلف الموسيقي اللبناني عبد الرحمن الباشا. اختار ابن الواحدة وخمسين سنة الحائز عشرات الجوائز أشهرها جائزة الملكة إليزابيت المميزة في بلجيكا ولم يكن عمره تعدّى العشرين سنة بعد، البدء بمقطوعة من عصر الباروك لسيباستيان باخ. وفي موضع استسلام الأنامل للآلة السوداء الدافئة، يخرق صوت أحد الضباط من قوى الأمن الداخلي صمت الحاضرين، محتجاً لعدم السماح لصبية جميلة أتت برفقته متأخرة 25 دقيقة عن الحفلة."القرار ليس لك، الدنيا ليست على ذوقك"، يقول رجل الأمن المحتدّ المشرئب. فيردّ أحد منظمي المهرجان:"هذه هي التعليمات، نحن في حفلة حساسة... هنا موسيقى كلاسيكية وصمت مدقع...". لكن القرار الصارم كان للأمن الذي فرض دخول الصبية التي احمرّت خجلاً، لخرقها طقوس مثل هذه الأمسيات. الانزعاج بدا واضحاً على صاحب الأنامل الناعمة المنسابة على مفاتيح البيانو، كلمسة الأم لمولودها الجديد لحظة الولادة. انتقل الى بداية الحقبة الرومنطيقية مع بيتهوفن وسوناتا رقم 14 بعنوان"ضوء قمر"، والتوتّر ظاهر على محيّاه. لكن المفرقعات النارية تارة وأصوات الربابة والطبل الآتية من بقايا عرس في الهواء الطلق في الجوار، أوقفته عن العزف حوالى 7 دقائق غادر أثناءها الخشبة، ليعود مستسلماً في قلب الحقبة الباروكية مع شوبان. فانسابت أحاسيس العازف الخبير في عزف مقطوعات شوبان الرائعة، مصدرة نغمات سوناتا رقم 3 و"غير متوقّع"، ثم سوناتا رقم 2 و"النشيد المأتمي"، سافر معها الجمهور إلى خارج المكان والزمان. وعلى رغم الاهتزازات التي شتّتت سكون المستمعين، جاء القسم الثاني من الحفلة الأولى التي يحييها الباشا ضمن مهرجانات بعلبك، أكثر تعمّقاً وانسياباً وهدوءاً من القسم الأول، إذ حمل الباشا جمهوره من بعلبك على نغمات مقطوعة"لعبة مياه"لرافيل، ليضنيهم في مقطوعة"الحنين"لأبيه الموسيقي الراحل توفيق الباشا. فتعلو كلمات المديح والتصفيق، لينتقل الى ألبينيز مختتماً برنامجه المقرّر للحفلة. لكن الجمهور الذي بدا على دراية واضحة بما يقدّم الرجل الموهوب صاحب تقنية عزف مميزة، لم يرض للحفلة أن تنتهي. فأصرّ على عودة الباشا الى الخشبة. فلبّى الباشا الطلب، وفاجأ معجبيه بمقطوعة تحمل عنوان المكان التاريخي"باخوس"للمرّة الأولى. وهي مقطوعة قصيرة كان كتبها واثنتان غيرها، في أوبرا كتبها أبوه توفيق ولم تنفّذ بعد. وبما أن الفن الجميل لا يشبع منه الإنسان، أصر الجمهور مرّة أخرى على العزف، فكان مسك الختام من نصيب الموسيقي رخمانينوف الذي عُرف الباشا بتأدية مقطوعاته بحرفية عالية. ثلاث ساعات كاملة، استطاع خلالها الباشا الذي يعتبر من أشهر عازفي البيانو في العالم خصوصاً في الشكل الكلاسيكي المحض، أسر حواس حوالي 700 شخص قطعوا كيلومترات طويلة ليكونوا على تماس حميم من عزفه المرهف. وقد تكون مراهنة النقاد الموسيقيين والمتابعين في مجال الموسيقى الكلاسيكية في الثمانينات، على زمن تحتل فيه الموسيقى الجادة المكان اللائق في ثقافة الجمهور اللبناني ووجدانه، بدأت تظهر أولى ملامحها الإيجابية، في هذه الحفلة. فعدد المستمعين بإصغاء كبير وحماسة غير معهودة للموسيقى الكلاسيكية، كان لافتاً. فالناس الآن باتوا يستمعون الى الموسيقى كشيء مكمّل لحياتهم اليومية لا قيمة كبيرة له. يستمعون إليها وهم يعملون أو يتحدثون أو يأكلون أو يتنزّهون، من دون اهتمام بما يتناهى الى أذهانهم من أصوات. وعلى رغم أن"الموسيقى صارت مجرّد ضجيج يرتفع على خلفية الحياة البعيدة، في عالم تكنولوجي سهّل هذا الانحطاط وجعل من فنّ الموسيقى العظيم مجرد أكسسوار لوجودنا وحياتنا الرتيبة"، على ما يقول الناقد الموسيقي اللبناني الراحل نزار مروّة، يشعر المتابع لحفلات الموسيقى الكلاسيكية أن جمهورها في العالم العربي يتوسّع، وإن كان رويداً رويداً. أنامل عبد الرحمن الباشا مستسلمة للآلة السوداء .