هل يعقل أن يمر محمود درويش في سماء عمان، ولا يطأ أرضها؟ هل يمر كالسهم من مطار"ماركا"إلى رام الله، من دون أن يصافح أصدقاءه في عمان؟ هل يعقل أن تختطف الطائرة التابوت هكذا كالهاربين من مطاردة عبثية؟ فماذا عن الآلاف المحتشدين في مطار"ماركا"؟ ألا يحق لدرويش أن يلقي عليهم تحية الصباح ثم يمضي؟ ألا يحق لهم أن يستقبلوه ليسألوه عن آخر الكلمات في الأقل؟ ليقولوا له ما قاله درويش إلى صديقه ماجد أبو شرار:"صباح الخير يا ماجد/ قم اقرأ سورة العائد". لم تكن عمان مجرد مسكن في أحد أحيائها. كانت له تفاصيل تراكمت في خلال سنوات. وفيها كتب أجمل الأشعار، وأحب مساءاتها المرتبكة، وتشاجر مع الموت والألم، وتصالح مع العدم. وفيها تخلص درويش من عبء اللقاءات الثقافية اليومية. وفيها تذوق طعم وحدته كما لم يعرفه من قبل في أي مدينة أخرى. وفيها وقّع دواوينه الأخيرة. هل يكتفي درويش بإلقاء تحيته على محبيه ومستقبليه في عمان من السماء؟ وهو الذي كان يحرص على إعداد القهوة لأصدقائه، حتى في أكثر اللحظات تعباً وألماً. أخبروني أنه لم يقبل أبداً أن يمد أحد يده حتى ولو لرفع فنجان قهوة فارغ. فهل يليق بنا أن نحرمه لحظة اللقاء والوداع هذه على الأرض؟ وهل كان صعباً أن يمر محمود درويش ببيته في عمان... يتفقده بنظرة سريعة... يتناول بعض الأوراق من بعض الزوايا... يتفقد أصيص وردة فيروي عطشها ثم يقول وداعاً؟ هل كان ثمة من يستكثر على الشاعر جنازتين أو ثلاثاً أو أكثر؟ ألا يعرفون أن ثمة جنازة في قلب كل محب وقارئ وعاشق قصائده وأشعاره الطازجة؟ كان يمكن أن يحمله الأصدقاء على أكتافهم، ويطوفوا به شوارع عمان شارعاً شارعاً. وكان يمكن أن يفتحوا الطريق إلى قدميه ليعبر وهو محاط بهالة الفراشة. وكان يمكن أن يمر ببعض الأماكن التي قرأ فيها قصائده ذات يوم، وأهال الدمع من عيني صبية عاشقة، أو أم شهيد. وكان يمكن أن يطمئن على وصيته إلى غانم زريقات، وأن يفي بوعده لمحمد شاهين في خصوص الحفلة الكبيرة. من قال إن محمود درويش أراد جنازته هكذا؟ لقد قطفنا له الورود الحمر والصفر كما أراد. واستبعدنا البنفسجي كما أراد. وأحضرنا ألوان العلم كما أراد. وعلى رغم أننا سفحنا كثيراً من الدمع في اليوم الأول، إلا أن عمان كلها كانت تستعد للبكاء كما يليق ببطل طروادي أصابته حربة"آخيل"المتغطرس. لم نكن نحن الكتاب والمثقفون في عمان نلح عليه لأجل لقاء أو حتى تحية. كنا نحترم طقوسه ورغباته واختياراته. فهو الذي يشبه امرأة ناضجة قادرة على تحديد عاشقها، ما يعني عبثية مطاردتها للظفر بها. كنا نكتفي بقراءته من بعد. نتحاور في شؤونه وقصائده ومواقفه وخصوصياته أحياناً من بُعد. يحضر من يحضر منا بعض أمسياته الشعرية، ويكتفي البعض الآخر بالقراءة والمتابعة. فلا يمكن أن يكون محمود درويش مشاعاً في العلاقات الشخصية مع الآخرين. ولا يحق لأحد أن ينتزعه من لغته التي أقام فيها، هو الذي أشار إلى أنه كلما طالت إقامة الشاعر في المنفى، تجذرت إقامته في اللغة. كنا كذلك. ولكن الأمر تغير اليوم. فمحمود درويش لم يعد وفي يده قطعة نرد ليلقيها على مساحة سوداء وينتظر. ومحمود درويش لم يعد إلا لكي يقول وداعاً. ولأنه الوداع، فليس ثمة أحد مثله قادر على وداع مدينة وشعب. فهل كان يحق لأحد أن يسلبه لحظة الوداع تلك؟ ألم يفتشوه في المطارات من قبل؟ ألم يخضعوه لاستجوابات عدة على الحدود في أنحاء الكون كله؟ ألم يكن مشروع قتيل أو ميت في أي لحظة؟ ألم يقل إن المصادفات وحدها جعلته واقفاً ليقول: من أنا لأقول لكم ما أقول لكم؟ ألم يكن في وسع هذا الكوني أن يترجل من الطائرة ولو دقائق فقط... دقائق كي يطمئن إلى أن كل شيء على ما يرام؟ دقائق كي يتأكد أنه حقاً هزم الموت وانتصر عليه، هو القائل: لم أجد موتاً لأقتنص الحياة! كان يمكنه أن يتيقن من أنه اقتنص الحياة. وكان يمكننا أن نتيح له معرفة أكيدة ونهائية بأنه أكبر من الموت، ومن الحضور والغياب المعتادين. أكبر من لغة المآتم والتعازي والنعي والرثاء. أكبر من كل الخلافات مع الآخرين حول جملة هنا، أو كلمة هناك. يكفي الواحد منا أن يتذكر جملة شعرية لمحمود درويش، لكي يشعر أن هذا الشاعر يخصه وحده بالكتابة. يخاطبه شخصياً كما لو كانا صديقين يتهامسان في الطريق إلى البيت بعد سهرة طويلة. لم يكن مقبولاً لنا نحن في عمان... لأصدقائه ومحبيه ومتابعي أمسياته، واللاهثين لأجل توقيعه الحميم... لم يكن ممكناً ولا عادلاً أن نتسمر أمام شاشات التلفزيونات كغيرنا في المدن النائية، نتابع وصول الطائرة من وراء البحار، وإقلاع طائرة أخرى بالشاعر إلى غرب النهر المقدس.كنا قادرين على مرافقته سيراً على الأقدام من عمان إلى النهر. وكان سيسر بأحاديثنا معه وعنه أثناء غيابه الأخير... كنا سنسأله عن أحلامه وهو بين النوم واليقظة... عن النساء اللواتي حضرن في أرخبيل طويل بين إبرة المخدر وسرير الإنعاش... عن رأيه في قصيدة النثر فيما لو تغير أو تبدل. عن مفاجأته أمه التي يحن إلى خبزها وقهوتها. ونشهد له أننا جميعاً نحن إلى خبز أمهاتنا وقهوتهن. اليوم تنافس السياسيون على كعكة اسمه. أما نحن القراء والأصدقاء فقد حرمنا حتى من مشاهدة تابوته مقفلاً عليه، لئلا نقول حرمنا من رؤية وجهه وملامحه الأخيرة. فقد كنا نود لو نرى أثر الموت، ونحن ندرك أن محمود كان أكثر شفافية حين اختار أثر الفراشة. وندرك أيضاً أنه كان في لحظاته الأخيرة سيقول لنا: على هذه الأرض ما يستحق الحياة. هكذا كان إذاً، وطار الشاعر في جنازة طائرة، قطعت آلاف الأميال، وكأنه كتب على درويش أن يظل وحيداً حتى في الجنازة. ولكن، ويوماً ما، ولن يكون بعيداً يا درويش، ستذهب عمان كلها لكي تصافحك، وتوقظك من نومك هذا لكي تلقي عليك تحية المحارب التي تستحق، وتحية العاشق الذي كنت، وتحية الكبرياء التي حملت.