من بين كتبه الفكرية كلها، وكانت كثيرة، كان الفيلسوف الانكليزي هربرت سبنسر، يعتبر مجموعته المؤلفة من خمسة أجزاء والتي تحمل عنواناً جامعاً هو"نسق الفلسفة التوليفية"، أهم أعماله قاطبة، بل حتى خلاصة كل العمل الفكري الفلسفي الذي أنجزه طوال حياته، حتى وإن كان قد عاد، بعد صوغ الجزء العاشر ليؤلف كتباً أخرى. أما من بين الأقسام الخمسة في عشرة مجلدات والتي تتألف منها تلك المجموعة، فإن سبنسر كان يفرد مكانة ذات حظوة للقسم الأخير وعنوانه"مبادئ الأخلاقيات". فسبنسر كان يرى أن كل المبادئ التي احتوتها الأقسام الأربعة السابقة "المبادئ الأولى""مبادئ البيولوجيا"مبادئ السيكولوجيا" وپ"مبادئ علم الاجتماع" انما تغوص في مواضيعها وأفكارها حتى توصل القارئ في نهاية الأمر الى تلك الخلاصة التي تشكلها، أو يجب أن تشكلها، المبادئ الأخلاقية. ومن الواضح أن هذا السبب هو الذي جعل سبنسر، يترك جزءي"مبادئ الأخلاقيات"الى النهاية، على الأقل بالنسبة الى الصوغ الذي بات عليه شكل هذا القسم في نهاية الأمر، علماً أن تواريخ كتابة الأجزاء والفصول تفيدنا بأنها امتدت ما بين 1879، تاريخ كتابة الجزء الأول من المجلد الأول، حتى 1897، تاريخ الصوغ النهائي... بينما تحمل الفصول والأجزاء المتتالية تواريخ تتراوح بين 1891 و1892، ما يعني أن المؤلف اشتغل على كتابه هذا، أول الأمر حين كان يخطط لمشروع"النسق"ككل، ثم تركه مراراً وتكراراً حتى ينجز بقية الأجزاء خاتماً المجموعة كلها في السنة التي تؤرخ الصوغ النهائي 1897. والحقيقة ان لهذا الأمر دلالته، بالنظر الى أن مشروع سبنسر كان يقوم أول الأمر على وضع معادل"تجريبي"لپ"نقدية"كانط، ثم، حين شرع في دراسة مبادئ الأخلاق أجّل المشروع كله ريثما يصيغ بقية المبادئ التي تودي، في رأيه، الى تلك الخلاصة. هنا لا بد من أن نذكر أن سبنسر لم ينشر جزءي قسم"مبادئ الأخلاقيات"مرة واحدة بل على دفعات، إذ نراه ينشر"معطيات الأخلاق"عام 1879، ثم"العدالة"عام 1891، فپ"المداخل الى الأخلاق"عام 1892، ثم"أخلاقيات الحياة الخاصة"1892 وپ"فعل الخير السلبي"1893 ثم"فعل الخير الإيجابي"1893. وفي شكل عام يبدو واضحاً أن ما يتوخاه هربرت سبنسر من هذا الكتاب، انما كان ايجاد أساس علمي للسلوك العادل والسلوك الظالم: ذلك كان الهدف النهائي لبحثه الطويل هذا، الهدف الذي جعله يشتغل طوال عقدين من الزمن ليكتب ألوف الصفحات. ينطلق سبنسر في متن الكتاب كله من فكرة مبدئية تقول ان الظواهر الأخلاقية، مثلها في هذا مثل كل الظواهر الكونية الأخرى، انما هي التعبير المباشر عن تطور يدور تبعاً للقوانين الطبيعية. وفي هذا المعنى لا يعود في وسعنا هنا أن نعثر على أية أخلاق قائمة على أساس ارادة يبديها كائن ما فوق طبيعي، أو على أساس مطلب طبيعي حاسم كما هي الحال عند ايمانويل كانط. غير ان هذا التأكيد لا يدفع المؤلف الى حضن تجريبية متطرفة: ذلك انه أبداً لا ينظر الى الإنسان على اعتباره كائناً معزولاً، يعيش في منأى من استمرارية التطور الإنساني. ان مفهوم الأخلاق، لدى سبنسر، وهو مفهوم ذو نزعة تطورية بالتأكيد، يجد لدى الإنسان، في الوقت نفسه الذي يجد فيه أخلاقية غريزية تلقائية، عواطف جوانية أخلاقية ترتبط بأسس تكوينه. غير ان سبنسر وحتى هنا، وعلى شاكلة أصحاب النزعة الفلسفية النفعية، يجد أن أساس كل هذا يكمن في التجربة، تجربة ما هو نافع، رابطاً الوعي نفسه بتجربة منظمة. ويرى سبنسر أن التجارب النافعة، إذ تكون منسقة ومعززة بفضل تعاليم ودروس الماضي الجماعية، تستثير في الجهاز العضوي للإنسان تغيرات عصبية، تنتقل من طريق الوراثة وتتراكم جيلاً بعد جيل، لتصبح ملكات أخلاقية جوانية مندمجة تماماً في شخصية الإنسان، كما تصبح، انطلاقاً من ذلك، مشاعر موازية للأفعال سواء أكانت هذه الأفعال أفعالاً جيدة أم سيئة. هذا بالنسبة الى المبادئ الأخلاقية في شكل عام. أما بالنسبة الى أخلاقيات الحياة الخاصة، فإن سبنسر، وتبعاً لمفسري أعماله، إذ يعتبر الأفعال الأنانية عنصراً له من الأهمية في التحليل، نفس ما للأفعال الكريمة اللاأنانية، يقيم هذا الواقع جزئياً على أساس الضرورات الفيزيولوجية. وهذا ما يسمح لسبنسر بعد أن سبر على هذا النحو أغوار أخلاقيات الحياة الخاصة، بأن ينتقل الى الأخلاقيات الاجتماعية، حيث نجده يعرض مبادئ العدالة الخالصة، وأفعال الخير الإيجابية والسلبية، معلناً أن هدفها جميعاً انما هو تطويع ما هو شديد الحزم في قوانين هذه العدالة، التي يصفها حيناً بالخالصة وحيناً بالمطلقة. ولعل التعبير الأفضل الذي يمكننا هنا استخدامه للحديث عما يمكن أن نخلص اليه من خلال استعراضنا لأفكار سبنسر في مجال مبادئ الأخلاقيات هو القائل إننا إذا ما قررنا بأن العدل هو الأساس المؤسس للعلاقات الاجتماعية، فإن على هذا العدل، إذا ما أراد الوصول الى أن يكون أقرب الى الكمال، أن يتواكب مع الحب والتعاطف، ليصبح الثلاثة معاً أقانيم تسير حياة الإنسان وسعادته على هديها. وانطلاقاً من هذه الخلاصة يختتم سبنسر هذا النص بتمجيد فاعل الخير لدى البشر، هذا الكائن الذي تكون غايته المثلى والأكثر نبلاً، العمل على تكوين ما هو انساني لدى الإنسان. في الحقيقة ان قراءة جزءي"مبادئ الأخلاق"كما صاغهما سبنسر، خلال سنوات عدة، في معزل عن قراءة بقية المبادئ النظرية ? والعملية ? التي تتألف منها مجموعته ككل، قد تضعنا أمام نصوص ستبدو كلها وكأنها صيغت كي توصل الى النص الأخلاقي الأخير، إذ بعد كل شيء ثمة تأكيدات كثيرة وفصول عدة، في الجزءين اللذين يؤلفان"مبادئ الأخلاقيات"ما كان يمكن فهمها بسهولة إن لم يكن القارئ قد قرأ قبل ذلك أجزاء مجموعة سبنسر، وربما بخاصة"مبادئ السيكولوجيا"وپ"مبادئ علم الاجتماع"، إذ ان في ذلك امكاناً لينظر الى السيكولوجيا وعلم الاجتماع والأخلاقيات ككل مترابط. وهذا ما يضع فلسفته في شكل دائم في اطار الفلسفة الاجتماعي جاعلاً منه، بحسب تعبير المراجع الانكليزية منظّراً اجتماعياً. مهما يكن، لم ينكر سبنسر هذا أبداً هو الذي منذ بدايات اشتغاله على الفكر حرص على أن يضع تصوراً تطورياً، بدا أول الأمر مرتبكاً ومربكاً، يتحدث عن التطور ? دائماً الى الأمام للعالم الفيزيائي، وللأجهزة العضوية البيولوجية، كما بالتالي للعقل البشري وللمجتمعات البشرية. وهي كلها مبادئ اشتغل عليها بعمق بعد قراءته لكتاب داروين"حول أصل الأنواع"وتحويره صيغة داروين من"البقاء للأقوى"الى"البقاء للأصلح"... ما جعله يشتغل دائماً على مجموعة كبيرة من العلوم والمعارف تراوحت بين الدين والسياسة والفلسفة وعلوم الأحياء والمجتمع والتحليل النفسي وصولاً في نهاية الأمر الى ما كون الأساس العملي - الاجتماعي، لفلسفته، أي علم الأخلاق. عاش هربرت سبنسر بين 1820 و1903، واعتبر مفكراً ليبرالياً كلاسيكياً، كان همه دراسة الإنسان في كل أحواله ولا سيما دراسة الإنسان من الناحية الأخلاقية والاجتماعية، الى درجة ان الذين أرخّوا لحياته وحللوا أعماله رأوا دائماً أنه في ثنايا عمله - ابدل مبدأ الانتخاب الطبيعي الدارويني، بمبدأ هو"الانتخاب الفكري الاجتماعي والعقلي". ومن كتب سبنسر، الى ما ذكرنا"التربية"وپ"دراسة في علم الاجتماع"وپ"الإنسان في مواجهة الدولة"وقد كتب سبنسر سيرته في كتاب حمل عنوان"سيرة ذاتية"صدر بعد وفاته بعام. [email protected]