هلل كثيرون للوقود الحيوي باعتباره بديلاً أخضر للبترول. ولكن بعد انشاء الولاياتالمتحدة مصانع عملاقة لتحويل الذرة الى ايثانول اقتداء بالبرازيل التي تصنعه من قصب السكر، وترويج هذه الصناعة في أنحاء العالم لانتاج وقود من الحبوب والبذور الزيتية، ارتفعت أسعار المواد الغذائية بشكل حاد نتيجة منافسة الوقود على محاصيل الحبوب. هنا آخر مستجدات الصراع بين أرباب الوقود الحيوي ومناهضيه أعلنت إثيوبيا في حزيران يونيو 2008 أنها تخطط لانتاج وقود الايثانول من قصب السكر بغية خفض فواتير استيراد النفط الباهظة، رغم المخاوف من أن تضر هذه الاستراتيجية بالانتاج الغذائي في بلد يعاني من المجاعة ومن جفاف حاد. فهناك نحو 4,5 ملايين إثيوبي يحتاجون الى مساعدات غذائية طارئة بسبب احتباس الأمطار وارتفاع أسعار المنتجات الغذائية. وتقول الحكومة ان باستطاعتها انتاج بليون ليتر من الايثانول سنوياً من أربع مزارع حكومية لقصب السكر، كما تخطط لانتاج الديزل الحيوي بيوديزل من مزارع الجاتروفا والخروع والنخيل الزيتي. سوازيلاند بلاد أفريقية أخرى في قبضة الجوع، تتلقى إعانات غذائية طارئة اذ يواجه شعبها نقصاً غذائياً حاداً. ومع ذلك قررت حكومتها أن تصدّر وقوداً حيوياً منتجاً من أحد محاصيلها الرئيسية: الكاسافا المنيهوت. فقد خصصت آلاف الهكتارات من أراضيها الزراعية لانتاج الايثانول في اقليم لافوميسا الأكثر معاناة من الجفاف، بهدف تصديره الى أوروبا. وجاء في تعليق على ذلك نشرته صحيفة"غارديان"البريطانية:"سيكون أسرع وأكثر إنسانية تكرير شعب سوازيلاند وتعبئته في خزانات سياراتنا". هذان مثلان على صناعة وتجارة وصفهما مقرر الأممالمتحدة السابق بشأن الحق في الغذاء جان زيغلر ب"جريمة ضد الإنسانية"، باعتبار أن الانتاج الكثيف للوقود الحيوي يؤثر على ارتفاع أسعار المواد الغذائية في العالم. وحذر من أن"العالم يتجه نحو فترة اضطرابات طويلة جداً ونزاعات مرتبطة بارتفاع الأسعار ونقص المواد الغذائية". يصنع الوقود الحيوي biofuel من أي مصدر عضوي متجدد. ومنه صنفان رئيسيان في السوق العالمية هما البيوديزل والايثانول السائلان اللذان يتم إنتاجهما عموماً من محاصيل غذائية. يستخرج الايثانول من قصب السكر والذرة والقمح وحبوب أخرى تحتوي على السكر أو النشاء، ويضاف الى البنزين، وتنتج الولاياتالمتحدةوالبرازيل 90 في المئة من مجموعه العالمي. أما البيوديزل فيصنع من مصادر نباتية تحتوي على الزيوت، مثل الصويا وبزر اللفت وعباد الشمس وزيت النخيل، ويضاف الى الديزل، وينتج الاتحاد الأوروبي 75 في المئة منه. وتوقع تقرير لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ومنظمة الأغذية والزراعة زيادة سريعة في الانتاج العالمي للوقود الحيوي خلال السنين العشر المقبلة، بحيث يبلغ انتاج الايثانول 125 بليون ليتر سنة 2017 أي ضعفي الانتاج في 2007، في حين يرتفع إنتاج البيوديزل بشكل أسرع ليبلغ 24 بليون ليتر سنة 2017 بالمقارنة مع 11 بليوناً العام الماضي. لقد دخل الوقود الحيوي مؤخراً مرحلة التشكيك والتدقيق، بعد أن كيل له المديح كمصدر بديل للوقود الأحفوري. اذ بينت دراسات عدة أنه أكثر ضرراً للبيئة وللبشرية مما كان يعتقد أصلاً. فهو يزيد الطلب على المحاصيل الغذائية ويرفع أسعارها، ويوجه الانتاج الى الغابات والأراضي العشبية، ويدمر الحياة الفطرية، ويطلق الكربون المخزون الى الغلاف الجوي. لذلك يجري التركيز حالياً على"الجيل الثاني"من الوقود الحيوي، الذي يمكن صنعه من الأعشاب وفضلات الزراعة والخشب والطحالب وروث الحيوانات ومياه المجاري ومصادر عضوية أخرى. لكن الخبراء يقولون ان طرق التصنيع هذه لن تصبح مجدية تجارياً قبل خمس سنوات الى عشر سنين. صديق أم عدو مناخياً الوقود الحيوي ليس ابتكاراً جديداً، فمحرك الديزل الذي اخترعه المهندس الألماني رودولف ديزل عام 1892 صُنع أولاً ليعمل بزيت الفول السوداني الفستق. وفي أوائل القرن العشرين صمم هنري فورد احدى سياراته الأوائل لتعمل على الايثانول. غير أن النفط الخام الرخيص، خصوصاً من الشرق الأوسط، حوّل الاهتمام والأبحاث بعيداً عن الوقود الحيوي. وبعد ازدياد المخاوف من تداعيات تغير المناخ وارتفاع أسعار النفط وانعدام أمن الامدادات النفطية، راحت الحكومات والصناعة تبحث بشغف عن أنواع وقود بديلة. وحملة الرئيس الأميركي جورج بوش لتقليل الاعتماد على النفط الأجنبي قادته الى اصدار مرسوم يقضي بأن تستبدل الولاياتالمتحدة 75 في المئة من النفط المستورد بوقود حيوي مع حلول سنة 2025. وفي العام 2007 حدد الاتحاد الأوروبي هدفاً ملزماً يقضي بأن يشكل الوقود الحيوي 10 في المئة من إجمالي وقود النقل بحلول سنة 2020، في اطار خطة خفض انبعاثات غازات الدفيئة 20 في المئة. لكن الدول الأعضاء تختلف في مواقفها. ومع أن معظم الوقود الحيوي سيكون مستورداً، تزايدت المخاوف من أن الأسعار المحلقة للغذاء قد ترتفع أكثر اذا حولت الأراضي الزراعية الخصبة في أوروبا لانتاج"محاصيل الطاقة". الوقود الحيوي محايد كربونياً ومناخياً من الناحية النظرية، لأن ثاني أوكسيد الكربون الذي يطلقه عند الاحتراق يعادل الكمية التي امتصها النبات أثناء النمو. لكنه يتعرض لانتقادات متزايدة اذ يتبين أن له بصمة بيئية أكبر مما كان يعتقد في البداية. فزراعة المحاصيل التي تنتجه يمكن أن تؤدي الى زيادة اجمالية للكربون في الغلاف الجوي. ثم إن ارتفاع شهية العالم لاستعماله يعني حوافز اقتصادية لتدمير البراري والغابات المطيرة أو حرقها لتوفير مزيد من الأراضي الزراعية، فتنطلق مقادير كبيرة من غازات الدفيئة نتيجة التعرية والحرائق، ما يعتبره بعض العلماء كافياً لابطال أي مفعول ايجابي. كما يقدر أن إنتاج ليتر من الايثانول يحتاج الى 11 ليتراً من المياه، منذ زراعة الذرة حتى توزيع الوقود. ثم ان الاستعمال المكثف للنباتات المعدلة وراثياً لتعزيز إنتاج محاصيل الوقود الحيوي يهدد بأخطار غير مسبوقة ولا تعرف أبعادها. ويؤثر ارتفاع أسعار المواد الغذائية بنسبة 53 في المئة خلال الأشهر الأربعة الأولى من سنة 2008 عن الفترة عينها من سنة 2007 تأثيراً كبيراً على الدول الفقيرة، وقد تسبب باضطرابات في افريقيا وآسيا وجزر الكاريبي. لذلك تعلو دعوات لتجميد كل الأهداف الحكومية والحوافز الداعمة لتجارة الوقود الحيوي ريثما يصبح"الجيل الثاني"متوافراً بشكل تجاري. حتى صندوق النقد الدولي، المتهم دائماً بتقديم الفقراء قرباناً على مذبح الشركات التجارية، يحذر الآن من أن استخدام الغذاء لانتاج الوقود"قد يجهد الموارد الشحيحة أصلاً من الأراضي المزروعة والمياه حول العالم، وبالتالي يؤدي إلى رفع أسعار الغذاء أكثر". كبش فداء؟ في منتدى الطاقة الدولي الذي عقد في روما في نيسان أبريل 2008، اعتبر وزير النفط القطري عبدالله العطية أن"العالم يواجه اليوم نقصاً في الغذاء، والملامة لا تقع على النفط، بل على الوقود الحيوي". واعتبرت شركة"ميريل لينش"للاستشارات الاستثمارية والمصرفية في تقرير خاص أن الوقود الحيوي أصبح بسرعة مصدراً أساسياً لإمدادات الوقود الإضافي، يساعده انتشار سياسة موافقة له، وأنه حالياً"المساهم الأهم في نمو معروض النفط عالمياً، ولولا الإمدادات الإضافية منه لكانت أسعار البنزين بالمفرق أعلى بمعدل 21 دولاراً للبرميل". وأشارت الى أنه في 2007 استخدم نحو 25 في المئة من محصول الذرة في الولاياتالمتحدة لصنع الايثانول، متوقعة ارتفاع هذه النسبة الى 35 في المئة سنة 2008. وقدر التقرير أن الزيادة في انتاج الايثانول من الذرة في الولاياتالمتحدة أدت الى ارتفاع أسعار الذرة بنسبة 21 في المئة منذ عام 2004. وفي المقابل، تزيد الذرة الضغط على أسعار منتجات غذائية أخرى كالقمح وفول الصويا من جراء استبدال المحاصيل وبسبب مفاعيل الفائض. وتنظر البرازيل بقلق إلى اشتداد الانتقادات حول الوقود الحيوي، لأنها المنتج الثاني له عالمياً بعد الولاياتالمتحدة، ويتوقع أن تنتج هذه السنة 20 بليون ليتر من ايثانول قصب السكر، معظمها للسوق المحلية. وتعمل خمسة ملايين سيارة صنعت في البرازيل بعد العام 2003 على البنزين والايثانول الأقل كلفة. وينكر أرباب قطاع الوقود الحيوي تسبب صناعتهم في رفع أسعار الغذاء وتجويع العالم. ويزعمون أن انتاج الوقود من مصادر نباتية يستهلك 3 في المئة فقط من الطلب العالمي على الحبوب، وهذا لا يبرر ارتفاع سعر الرز مثلاً بنسبة 76 في المئة خلال أربعة أشهر من كانون الأول ديسمبر 2007 ونيسان أبريل 2008. وقال جوزف بوريل رئيس لجنة التنمية في البرلمان الأوروبي:"لا يجوز تحويل صناعة الوقود الحيوي إلى كبش فداء لهذا الارتفاع الوحشي في الأسعار". وعزت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، ودولتها أكبر منتج للوقود الحيوي في أوروبا، ارتفاع أسعار الغذاء إلى قصور السياسات الزراعية في البلدان النامية وتغير العادات الغذائية في الأسواق الناشئة، خصوصاً الرخاء الجديد في الهند والصين. مؤكدة أنه لا يرجع أساساً إلى انتاج الوقود الحيوي. في الاعلان الختامي لقمة منظمة الأممالمتحدة للأغذية والزراعة الفاو حول التغير المناخي والطاقة والغذاء، الذي عقد في روما في حزيران يونيو 2008، دعا مندوبو الدول ال183 المشاركة الى استكشاف"التحديات والفرص"التي يمثلها الوقود الحيوي، وإلى"حوار دولي"حوله في اطار الأمن الغذائي، مع إطلاق وعود بتقديم مساعدات للدول الفقيرة ب6,5 بليون دولار. وقد وصف الاعلان بأنه مخيب للآمال قياساً بالطموحات الأولية، اذ كان مفترضاً أن يصدر اعلان قوي عن"القضاء على الجوع وتأمين الغذاء للجميع"، خصوصاً بعدما ناشد المدير العام للفاو جاك ضيوف قادة العالم تأمين 30 بليون دولار سنوياً للنهوض بقطاع الزراعة في العالم النامي وتأمين الغذاء ل862 مليون جائع في العالم. ولكن خلافات على الحواجز التجارية وقضايا سياسية ورفض الولاياتالمتحدةوالبرازيل توقيع إعلان يدين انتاج الوقود الحيوي من محاصيل غذائية أساسية حجّمت الاعلان النهائي. الشمس أجدى في نيسان أبريل 2008 دعا وزير النفط السعودي علي النعيمي أمام منتدى باريس النفطي الى ضرورة النظر في العلاقة المتبادلة بين الطاقة والمنتجات الغذائية، لافتاً الى أن انتاج المواد الغذائية التقليدية مثل السكر والذرة وفول الصويا لاستخدامها وقوداً للسيارات والشاحنات وحتى الطائرات أدى الى ارتفاع أسعار هذه الأغذية. وقال ان انتاج الوقود الحيوي لا يساهم بشكل ايجابي في حماية البيئة ولا يحد من الانبعاثات العالمية لغازات الاحتباس الحراري كما كان متوقعاً. بل على العكس، تُزال الغابات التي تلعب دوراً أساسياً في امتصاص ثاني أوكسيد الكربون، من أجل انتاج محاصيل الوقود الحيوي الأقل قدرة على امتصاصه. لكنه أشاد بمصدر آخر للطاقة، هو الطاقة الشمسية التي تشكل"مورداً وفيراً ومجانياً ومتاحاً للجميع، وهي أفضل المصادر، وهناك فرصة كبيرة لتوسيع استخداماتها لتشمل كل أنحاء العالم لا سيما البلدان النامية، وجميع القطاعات والنشاطات الاقتصادية". وكشف أن السعودية، التي تملك أكبر احتياط نفطي في العالم، تولي الآن اهتماماً خاصاً للطاقة الشمسية وأبحاث خفض انبعاثات الكربون في استخدامات الوقود الأحفوري. الأبحاث متواصلة عالمياً حول موارد جديدة للطاقة وحلول الطاقة المتجددة، مثل توليد الكهرباء من الرياح وأشعة الشمس وحرارة باطن الأرض، وتحويل النفايات الى طاقة ووقود حيوي، وتشغيل السيارات على خلايا الوقود الهيدروجينية التي لا تنفث الا بخار الماء. وثمة"وعود"بجيل جديد من الطاقة النووية يقلص الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري. وتتهافت دول العالم حالياً، خصوصاً في المنطقة العربية، على استجلاب الطاقة النووية للاستخدامات السلمية ولا سيما انتاج الكهرباء أما الوقود الحيوي فقد يبقى مستقبله في الذرة مثلاً... ولكن ليس في حبوبها. فهناك الأوراق والساق وحتى القشور الخارجية، والفكرة هي استعمال هذه الأجزاء لانتاج الوقود الحيوي واستعمال الحبوب لصنع الغذاء.