ما تشهده هذه الأيام من أحداث متلاحقة وتطورات عجيبة يشبه إلى حد بعيد لعبة شطرنج، ولكن ليس على حجارة، بل على مصير شعوب منكوبة ومبتلاة بشتى أنواع الويلات، أو ربما أشبه بمباراة كرة قدم حامية، ما دمنا في موسم التصفيات الذي وضع أوزاره الأسبوع الماضي. فالكل يلعب في الوقت الضائع ويحاول تحسين مواقعه وتسجيل هدف يقلب المعادلات أو يمهد للعبة حظ يفوز بها صاحب الركلات الأكثر دقة في التصويب نحو الهدف. نعم الكل يلعب داخل المنطقة وخارجها لتمرير الوقت، أو بالأحرى لكسب الوقت بانتظار جلاء الأمور واتضاح نتائج وأبعاد الاستحقاقات الكبرى المنتظرة والمتوقعة والحتمية الحصول خلال الأشهر القليلة المقبلة على الأصعدة الداخلية والاقليمية والدولية. الاستحقاق الأول والأهم هو الانتخابات الرئاسية الأميركية وما تعني مع انتهاء عهد الرئيس جورج بوش المثير للهموم والمشاكل والتبعات الكبرى على صعيد المنطقة والعالم وقدوم رئيس جديد وعهد جديد، إما أن يكمل ما بدأه الرئيس الراحل مع بعض التعديلات و"الرتوش"أو أن يناقضه وينهج سياسة جديدة واستراتيجية مختلفة ينأى بنفسه عن قرارات الحرب، وبالتالي تغيير قواعد اللعبة في الشرق الأوسط وبناء واقع جديد يعيد جدولة المواقف والتحالفات ويغير مواقع تموضع القوات الأميركية ومعها النظرة للنفوذ الأميركي في المنطقة، وربما صورة"الهيبة"المرسومة للولايات المتحدة على الصعيد العالمي كله. هذا الاستحقاق تتفرع عنه كل الاستحقاقات الأخرى بالجملة والمفرق، خصوصاً في منطقتنا العامرة بالأزمات والمشاكل والاضطرابات والمدججة بسلاح الفتن وصواعق التفجير الجاهزة ومشاريع الحروب المعدة للمرحلة المقبلة وبينها حروب التطرف والإرهاب التي يبدو أنها بدأت تعيد بناء قوتها واستعداداتها لموجة جديدة من الأعمال الإرهابية المتنقلة. فالكل يراهن على الاستحقاق الأميركي، وينتظر نتائجه ويحسب حساباته الخاصة في حال فوز باراك أوباما، مرشح الحزب الديموقراطي، أو تمكن مرشح الحزب الجمهوري جون ماكين من تجاوز الخطر. فالأول سيغير حتماً في نهج السياسة الأميركية و"تكتيك"التحرك المقبل لتحسين صورة الولاياتالمتحدة والاعتماد على فتح أبواب الحوار وتهدئة الأوضاع وتبريد الأجواء، إلا أنه سيحتاج إلى مهلة طويلة لبناء إدارته الجديدة من نقطة الصفر ودراسة الملفات الساخنة واتخاذ القرارات الحاسمة بشأنها، علماً أنه كان قد أعلن أنه مناهض للحروب ويرفض اللجوء إلى استخدام القوة في تسوية الخلافات وحل النزاعات. أما الثاني، أي ماكين، صاحب النظرة العسكرية، فإنه سيكمل، على ما يبدو، مهمة سلفه في كثير من الملفات والنزاعات ويعيد بناء استراتيجية القبضة الحديد ولا سيما في ملفي العراقوإيران. هذا، مع العلم أن الاستراتيجية العامة للولايات المتحدة والدول الكبرى لا تتغير مع تغير الرؤساء ولا تخضع للأهواء الخاصة، بل هي مرسومة في خطوطها العريضة من قبل"المؤسسات الفاعلة"والمعدة مسبقاً لعقد كامل. وما يمكن أن يتغير أو يعدل هو بعض الخطوط والأساليب والتوجهات والتطوير في الأداء والخطاب السياسي، إضافة إلى إمكان فتح قنوات اتصال وحوار لخدمة الإطار العام لغايات هذه الاستراتيجية وأهدافها. أما بالنسبة إلى الشرق الأوسط، وإلى قضية الصراع العربي - الإسرائيلي على وجه التحديد، فإن التجارب علمتنا أن السياسة واحدة والتحركات متشابهة وإن تغيرت الأساليب وتحركت قنوات البحث عن حل سياسي كما جرى في عهدي الرئيسين جيمي كارتر وبيل كلينتون، وظهر المشهد واضحاً عندما اضطر أوباما، ابن المسلم الكيني، إلى المزايدة على ماكين في مغازلة إسرائيل والحرص على أمنها والتأكيد على الاستعداد لعمل"كل ما يلزم"لحمايتها والدفاع عن مواقفها وتقديم شتى أنواع الدعم لها، وقرن قوله بالعمل بزياراتها للحصول على بركتها!! هذا هو الواقع المؤلم الذي يدفعنا إلى الدعوة إلى عدم انتظار"الترياق"من واشنطن أو أي عاصمة دولية أخرى، فالنتيجة واحدة وخيبة الأمل المتكررة لا تتغير مع تغير العهود والرؤساء، وقد انتظرنا طويلاً منذ أكثر من ستين عاماً تغييراً ما في عاصمة كبرى واستبشرنا خيراً برئيس واعد ينثر عذب الكلام ويظهر الوجه الحسن والصورة الجميلة، وبعد أيام قليلة توالت الصدمات وذهب انتظارنا سدى وتحول"استبشارنا"شراً لنا ولقضايانا. بل تعودنا أيضاً على"لعبة"تبادل الأدوار على مدى العقود الماضية بين رئيس ورئيس، وبين مبادرة ومبادرة وبين تحرك أميركي لا يقبل الشريك وبين تحرك أوروبي يحاول أن يسد الفراغ الحاصل عند تراجع الولاياتالمتحدة أو انشغالها بانتخابات أو بحدث ما. وهذا ما يقدم عليه اليوم الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بعد توليه رئاسة الاتحاد الأوروبي. فهو يكثف اتصالاته لبلورة مبادرات في المنطقة واغراء قياداتها بمواقف متقدمة مثل شعار الدولة الفلسطينية المستقلة ووقف الاستيطان الصهيوني في الأراضي العربية المحتلة من دون أن ينسى التأكيد بأنه سيكون الحليف القوي لإسرائيل. ومع هذا ينتظر العرب وقياداتهم، ومعهم القيادات الاقليمية، الدخان الأبيض الذي سينبعث من واشنطن قريباً ويرسمون سياساتهم للأشهر الستة المقبلة على أساس الرهان على أحد الحصانين. والملفت أن ما جرى ويجري بالنسبة إلى عدد من الملفات الساخنة ينطلق من هذه الرهانات وسط تطورات مثيرة للعجب لوقوعها في وقت واحد وكأن"مايسترو"واحداً يقود فرقة موسيقية تعزف أناشيد التهدئة والتبريد وتجميد الأزمات واعتماد الحلول الجزئية والمنقوصة والموقتة بساعات تفجير وصواعق تشتعل عند الحاجة أو عند حلول ساعة الصفر ولحظة القرار. ففي لبنان جاء اتفاق الدوحة ليحيي الآمال بسلام لبناني ينهي مرحلة التأزم والصراع والخلاف الذي انفجر حرباً مفتوحة في شوارع بيروت وامتدت إلى الجبل والشمال والبقاع وكادت تشعل نار فتنة مذهبية بين الشيعة والسنّة نعرف متى تبدأ ولكن لا أحد يعرف كيف ستنتهي ليس داخل حدود لبنان، بل على امتداد العالمين العربي والإسلامي والتي يمكن أن تتحول إلى حرب فناء للمسلمين لعشرات السنين المقبلة. وبعد أن انفض المهرجان الكبير وانتخب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، اكتشفنا أن الخطوات التالية صعبة، إن لم تكن مستحيلة التنفيذ وأن المطلوب هو وضع الأزمة في الثلاجة الاقليمية والدولية حتى إشعار آخر بانتظار معرفة نتائج الاستحقاق الأميركي ومعه استحقاقات أخرى بينها نتائج الانتخابات اللبنانية، إن جرت في موعدها بعد 10 أشهر، لأنها ستحسم الأمر وتقرر من سيتمكن من الفوز بالأكثرية بموجب قانون الانتخابات الجديد، إن أقر !! ومعه استحقاقات أخرى مثل نتائج التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه وبدء أعمال المحكمة الدولية، إن بدأت كما هو مقرر، في كانون الثاني يناير المقبل، ومصير المداولات الدولية المحمومة، لايجاد حل عاجل لقضية مزارع شبعا وإتمام صفقة تبادل الاسرى بين"حزب الله"وإسرائيل. ويرتبط الاستحقاقان الأميركي واللبناني بجسر ملغوم يحمل استحقاقات الملف النووي الإيراني وسط تساؤلات عن ضربة عسكرية وشبكة للمنشآت النووية الإيرانية يصفها البعض بأنها ستكون خاطفة وحاسمة وتطال أكثر من ألفي هدف وتشل قدرة إيران على الرد، فيما يحذر البعض من فتح باب الجحيم على المنطقة في حال القيام بهذه الضربة، أو في حال فشلها، وبالتحديد إذا كانت إسرائيل هي البادئة والمبادرة في العدوان، مما سيؤدي إلى فتح جبهات أخرى في فلسطينولبنانوالعراق والخليج وتدفع وصول النفط إلى جنون الأسعار المدمر. ويرتبط الاستحقاق الإيراني بدوره باستحقاق آخر في العراق الذي يقف على عتبة تحول تاريخي يتمثل في إبرام المعاهدة الأمنية مع الولاياتالمتحدة التي ستشرع الوجود العسكري الأميركي للسنوات المقبلة وتسمح بإقامة قواعد عسكرية قد تصبح دائمة. والملاحظ أن التهدئة في لبنانوفلسطين تزامنت مع تهدئة مماثلة في العراق تمثلت في ضرب ميليشيات"جيش المهدي"التابعة للسيد مقتدى الصدر الحليف المفترض لإيران على مرأى منها، من دون أن تحرك ساكناً، ربما إلى أجل مبرمج، بل هي انحازت إلى حليفها الآخر رئيس الوزراء نوري المالكي وما يمثله من تحالف مع قوى شيعية معروفة بارتباطاتها الإيرانية. وتزامن كل ذلك مع التخفيف من معارضة المعاهدة بعد تعديل بعض بنودها الحساسة وانحسار عمليات المقاومة ضد القوات الأميركية. كل هذه الاستحقاقات يرتبط بشكل أو بآخر باستحقاق مهم آخر وهو الاستحقاق الفلسطيني، الذي اتخذ منحى مماثلاً على خط التهدئة وسط استغراب الكثيرين لسرعة اتمام الاتفاق بين"حماس"وإسرائيل والالتزام به، فيما فتحت قنوات اتصال لبدء حوار بين"حماس"، المسيطرة على غزة، والسلطة الوطنية الفلسطينية، بعد أن أيقن الجميع أن وعود الرئيس بوش بتحقيق تقدم أساسي في التسوية وتوقيع اتفاق فلسطيني - إسرائيلي حول مستقبل السلام في المنطقة وإقامة دولة فلسطينية مستقلة قبل نهاية ولايته لن تتحقق. وتزامن ذلك مع الإعلان من استئناف المفاوضات السورية - الإسرائيلية غير المباشرة بوساطة تركية على رغم ضبابية الوضع الدولي والاقليمي. واتفاق إسرائيل مع"حزب الله"على عملية تبادل الأسرى تزامناً مع ذكرى مرور عامين على حرب تموز يوليو 2006. وترتبط هذه الاستحقاقات كلها باستحقاق ايهود أولمرت واحتمالات سقوطه في فخ الفضائح والفساد واضطراره للتنحي والدعوة لانتخابات مبكرة ينتظر أن تحمل"الليكود"واليمين المتطرف إلى الحكم وقلب كل المعادلات والإعلان عن بدء مرحلة جديدة من المواجهات الساخنة في المنطقة ضمن لعبة الهروب من استحقاق السلام ساعة الجد ووجوب اتخاذ موقف حاسم. كل هذه الاستحقاقات المنتظرة يوحي بأن سباقاً خطيراً يدور الآن بين الانفراج والانفجار وان كل شيء موقت ومجمد بانتظار حسم الأمور، فالتهدئة موقتة وهشة قد تثمر بدايات تثبيت إذا توافرت الظروف الملائمة، والمفاوضات قد تشهد تحولاً مصيرياً إذا دخلت الولاياتالمتحدة على الخط وقبلت القيام بدور الراعي النزيه بعد الانتخابات الرئاسية، والملف الإيراني الساخن قد يتم تبريده بتنازلات إيرانية حول التخصيب على رغم رجحان كفة المواجهة. ومع هذا يبقى العرب مجمدين على حافة رصيف محطة القطار المعطل ومعهم حقائب خلافاتهم ونزاعاتهم وأمزجتهم ونزعاتهم، فيما الشعوب تقف على حافة براكين الغلاء والأزمات الاقتصادية والأوضاع المعيشية الصعبة وسط مخاوف من اضاعة ثروات الفورة الاقتصادية في حروب عبثية وصراعات مدمرة ليعود الأمن الاجتماعي إلى الواجهة فتضيع كل الاستحقاقات تحت وطأة جوع الناس ومعاناتهم لأن للصبر حدوداً، ندعو الله أن لا نصل إلى حد تجاوزها. و"الله يستر"من العواقب الوخيمة. * كاتب عربي