ساعات قليلة ونودع عاماً مغمساً بالدم والدمار والدموع ونستقبل عاماً جديداً مثقلاً بتركة متفجرة قلبت الأوضاع في المنطقة والعالم رأساً على عقب. وعلى رغم دقة المرحلة وهول الأحداث الجسام، فإن بارقة أمل ضئيلة تلوح في الأفق لعلها تحمل تباشير مواقف تقوم على الاعتدال والحكمة وتسعى إلى إيجاد حلول سلمية لملفات دامية وتضع حداً لسفك الدماء وأهوال الحروب وتبعاتها المدمرة وتضع العالم والمنطقة على سكة السلام لعلنا ننعم ولو لفترة قصيرة بالأمن والأمان والاطمئنان وننبذ العنف والإرهاب، وننهي عهود التفرد والقهر والديكتاتورية والتحكم برقاب العباد. هذا الأمل المفقود لا يقوم على التحليل العاطفي فحسب، بل انطلاقاً من حتمية التاريخ وتداعيات الواقع الراهن وسلسلة التحركات التي شهدها العالم خلال الأشهر القليلة المنصرمة التي ختمت أحداث العام بتطورات دراماتيكية نقلته من حافة الحرب إلى حافة السلام، ومن الطريق المسدود الذي كان يبدو جلياً واضحاً إلى نفق في نهايته نور يبشر بالفرج. ومهما قيل عن هذه التطورات، ومهما ألقي عليها من ظلال شك وسهام اتهام، فإنه يمكن القول إنها شكلت تحولاً في النظرة لمواجهة الأحداث من التصلب والعناد إلى الحوار وقبول الآخر والاقتناع بتقديم تنازلات وصولاً إلى الكلمة السحرية وهي «الحل الوسط». فما جرى أخيراً يثبت نظرية قدرة المفاجأة على نسف أوضاع وإقامة أوضاع متناقضة معها تماماً، وتغيير مواقف في شكل كامل وتبديل مواقع وتبادل محاور وتحالفات، فحدث واحد، مهما كان صغيراً يمكن أن يغير ويبدل وينقل المنطقة من حرب إلى سلام والعكس بالعكس، ومن تشاؤم إلى تفاؤل، ومن رفض إلى قبول، ومن عقدة إلى حلحلة. ولنا في أحداث العام المنصرم أمثلة كثيرة آخرها الاتفاق الموقت بين إيران والدول الكبرى (5+1) الذي أحدث هزة في المنطقة والعالم، إذ انتقلت المواجهة من حافة حرب وحصار ونفور إلى اتفاق وفتح نوافذ وانفتاح ورفع جزئي للحصار، في انتظار مرور فترة الاختبار (6 أشهر) من أجل التوصل إلى اتفاق دائم يغلق ما يسمى بالملف النووي الإيراني ويسد الباب أمام أزمة كان يمكن أن تؤدي إلى حرب شاملة. هذا الاتفاق الصادم كان يعتبر من سابع المستحيلات بالنسبة إلى الإيرانيين (ولا سيما الجناح المحافظ والمتشدد) والأميركيين (ولا سيما جبهة المحافظين الجدد) وبصورة خاصة، كما كان غير وارد في تفكير جميع الأطراف الدولية والإقليمية والعربية، خصوصاً أن إسرائيل تقف بالمرصاد لعرقلة أي اتفاق مهما كان شكله وتفاصيله. أي بمعنى آخر لم يكن يتوقع أحد مثل هذه «النهاية السعيدة» لصراع دام أكثر من 30 سنة بين ما يسمى «الشيطان الأكبر» الأميركي و «محور الشر» الذي اتهمت إيران بتزعمه! أما المفاجأة الثانية في العام المنصرم فتمثلت في يوميات الحرب السورية وتطورها في شكل تصاعدي إلى أن بلغت ذروتها الدرامية عند الحديث عما عرف ب «الضربة الأميركية» المزعومة، فبعد استنفار وسيناريوات مرعبة انقلبت الأوضاع رأساً على عقب، ثم تم طبخ «صفقة» أميركية – روسية تقضي بتدمير الأسلحة الكيماوية السورية وإقفال ملف اتهام النظام السوري باستخدام هذه الأسلحة ضد المدنيين، ووقف الحديث، لا سيما بالنسبة إلى الأميركيين، عن الحرب والدمار والتنحي والتهديدات الأخرى واستبدالها بالتركيز على «القاعدة» والإرهاب والاتجاه نحو الحل السلمي والتركيز على عقد مؤتمر «جنيف 2» في أقرب فرصة لوضع حد لهذه الحرب العبثية التي تكاد تكمل عامها الثالث، ودفع ثمنها ملايين السوريين من لاجئين وضحايا وجرحى ومفقودين ومعتقلين وبينهم مئات الألوف من الأطفال الذين حرموا من أبسط حقوقهم من مسكن وصحة وغذاء وتعليم واطمئنان. وإذا كان عام 2013 عام الدماء والدمار، فإن كل الدلائل تشير إلى ان عام 2014 سيكون عام الحساب والاستحقاقات، إذ لم يعد هناك مهرب أمام جميع الأطراف من البحث عن مخرج لوضع حد للحرب والتوصل إلى اتفاق سلام ومصالحة وطنية، والأمل أن تساهم الصفقة مع إيران في تحقيق ذلك، تبديداً للمخاوف من أنها قد تؤدي إلى تعقيدات وتهديدات للمنطقة وللعرب الذين يدفعون دائماً الثمن الباهظ للصفقات الدولية. واستحقاقات سورية هذا العام كثيرة، أولها التوجه إلى مؤتمر «جنيف 2» وانتظار نتائجه، ومصير المعارضة وقدرتها على توحيد صفوفها وإنهاء حالات التشرذم ومعها الحالات الشاذة التي شوهت سمعتها عبر دخول جماعات ومنظمات متطرفة مثل «داعش» و «جبهة النصرة»... وغيرها. أما بالنسبة إلى النظام، فإن الاستحقاق الأكبر يتعدى حتمية جنيف إلى موعد إجراء الانتخابات الرئاسية في منتصف العام، إذ إن حسم أمورها سيؤثر في الموقف برمته ويلقي بظلاله على أية نتائج يخرج بها مؤتمر جنيف، إضافة إلى الاستحقاقات المالية والاقتصادية ومصير اللاجئين والنازحين وعملية تسيير المؤسسات والقدرة على إعادة إعمار ما تهدم. أما استحقاقات لبنان، البلد الأكثر تأثراً بما يجري في سورية، فهي كثيرة ولا بد من أن تحسم سلباً أو إيجاباً، وفق مجريات الحرب والسلام ونتائج «جنيف 2». فإضافة إلى معضلة اللاجئين وانعكاسات وجودهم في لبنان هناك استحقاق تشكيل حكومة جديدة تنهي حالات الركود والجمود واللاقرار، وانتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفاً للرئيس العماد ميشال سليمان، مع ترجيح رأي التمديد له لتعذر إمكان الانتخاب في ظل الظروف الدقيقة والخطيرة. أما الاستحقاقات الأخرى التي تحتاج إلى حسم، فهي كثيرة من بينها تفعيل عمل المؤسسات وحفظ الأمن ومنع العمليات الإرهابية، ومعالجة إشكالية مشاركة قوات من «حزب الله» في الحرب السورية، ومن ثم منع تأجيج نيران الفتنة الشيعية- السنّية التي تطل برأسها بين ليلة وضحاها. وفي مصر استحقاقات أخرى لا بد من حسم مسارها ومصيرها في عام 2014، وأولها وقف التدهور الأمني والاقتصادي ومعالجة المشاكل المستجدة بسبب أحداث عامين من الاضطرابات والتظاهرات والانقسام المؤسف، إضافة إلى حسم الموقف من جماعة «الإخوان المسلمين» بين عزل وحصار وقبول متبادل بالبحث عن حل وسط لا يموت فيه الذئب ولا يفنى الغنم. أما الحسم في الاستحقاقات الرئيسة فلا مناص منه ولا مفر، ومن بينها إقرار الدستور الجديد في الاستفتاء وتنفيذ خريطة الطريق التي أعلنها وزير الدفاع الفريق عبدالفتاح السيسي (المرشح الأوفر حظاً للرئاسة) ومن ثم إجراء انتخابات رئاسية ونيابية تضفي ثوب الشرعية على الحكم وتبدأ رحلة الألف ميل الصعبة من أجل أمن مصر واستقرارها وازدهارها، ووضع حد لمؤامرة تخريبها وإضعافها، لأن أي مكروه يقع لمصر سيطاول كل العرب، وأي انهيار أو ضعف سيعرض الدول العربية للخطر ويهدد أمنها القومي. أما ليبيا، فحدّث عنها ولا حرج، لأن استحقاقاتها معقدة وصعبة، ولكن الحسم ضروري لوضع حد للانفلات الأمني وهيمنة الميليشيات على مفاصل الحياة العامة، ولعل ما شهدناه في الأيام الأخيرة من العام المنصرم يشكل بداية ناجحة لحسم أكبر يعيد هيبة الدولة ومعها الأمن والأمان إلى نفوس الليبيين الذين تنفسوا الصعداء لانزياح كابوس حكم الديكتاتورية، فإذا بهم يجابهون بكوابيس قاتلة تهدد حياتهم وحاضرهم ومستقبلهم. وفي تونس، استحقاقات واجبة تحتاج إلى حسم مثل الاتفاق على حكومة ائتلافية والإسراع في إجراء انتخابات عامة حرة تبني أسس الدولة الحديثة وتعيد الأمن والاستقرار، وهما العماد الرئيس للاقتصاد التونسي من السياحة والاستثمار والمقومات الأخرى. وفي الدول العربية الأخرى، ولا سيما الخليجية، استحقاقات أهمها تثبيت دعائم الأمن ومواصلة مسيرة الإصلاحات التي بدأها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في السعودية عبر سلسلة إجراءات، من بينها مشاركة المرأة في مجلس الشورى، وتأمين الحياة الكريمة للشعوب وتحقيق المشاركة وتدعيم المشاعر الوطنية وتقوية دعائم مجلس التعاون الخليجي. وهنا أيضاً، يُنتظر أن تترجم قرارات القمة الأخيرة في الكويت إلى أفعال بعد نجاح رئيس القمة أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح في التقريب بين وجهات النظر وتحقيق الوفاق حول القضايا المطروحة وتدعيم الأواصر بانتظار القمة المقبلة في قطر. كما أن الكويت ستحصد في العام 2014 ثمار نجاحها في القمتين العربية الأفريقية والخليجية، وتتوجها باستضافة القمة العربية في شهر آذار (مارس) المقبل، بحيث ينتظر قيام الشيخ صباح بمبادرات لإنجاحها ورأب الصدع في الصف العربي، مستعيداً دور الكويت الفاعل عربياً ودولياً وأفريقياً، مع مواصلة دعم مشاريع التنمية في الدول العربية والإسلامية والأفريقية عبر الصندوق الكويتي للتنمية. ويبقى موضوع حسم مصير المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية التي ترعاها الولاياتالمتحدة، وهو يسير بلا أفق ولا أمل بسبب تهور الحكومة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتانياهو والمتطرفين وإصرارهم على تهويد القدس وإقامة المزيد من المستوطنات الاستعمارية ورفض التنازل عن مواقفهم المتصلبة ولا سيما بالنسبة إلى مزاعم الاعتراف بإسرائيل كدولة لليهود، إضافة إلى ضعف الموقف الفلسطيني نتيجة الانقسام والشرذمة وعدم تحقيق المصالحة الوطنية الفلسطينية وهو استحقاق يحتاج إلى حسم سريع. هذه المنطلقات لم تبن من العدم، بل تقوم على وقائع ودلائل توحي بأن الحسم قريب إلا إذا وقع حدث ما قلب من جديد الأوضاع رأساً على عقب... فلنتفاءل... وكل عام وأنتم بخير. * كاتب عربي