تعودنا أن نجلس على مقاعد المتفرجين ونتابع ما يجري من حولنا وكأننا غرباء أو أننا كعرب مجرد كومبارس في مسرحية أو مستسلمون لقدر لن يأتي من دون حركة وجهد وعمل وكفاح وكأنه «غودو» الذي لن يأتي أبداً. وتعودنا أن نحصي الساعات والأيام والشهور والسنين ونسمي الفصول بمسميات تنسجم مع أجواء منطقتنا مثل الشتاء الساخن والصيف الملتهب والخريف العاصف والربيع الواعد، فيما الأعداء والأصدقاء والجيران القريبون والأبعدون يتحركون كل باتجاه مصالحه ليحمي ظهره أو ليسجل نقاطاً أو ليدافع عن مصالحه أو ليقتسم الغنائم. أما العدو الأكبر والأكثر خبثاً وطمعاً فهو يزداد شراسة وتطرفاً وعنصرية ويسارع الى إكمال مخططاته الجهنمية لتهويد القدس وتكريس الإحتلال ومحو هوية فلسطين العربية وصولاً الى ترحيل الفلسطينيين وحرمانهم من هويتهم وحقوقهم المشروعة وتجريدهم من أرضهم ومقدساتهم ومعها آمالهم وأحلامهم بالإستقرار والصمود والحفاظ على ما تبقى من أرض الآباء والأجداد. كل الدلائل كانت تشير الى أن الصيف سيكون حاراً جداً ومتفجراً لإعتبارات عديدة وتطورات خطيرة مرتقبة ولكن يبدو أن رياح السموم قد ركدت الى حين وأن المعطيات المتوافرة تجمع على أن «القطوع» سيمر لفترة قصيرة ليعود بعدها مكشراً عن أنيابه في الشهور القليلة المقبلة، أي من الآن وحتى نهاية العام 2010. وبانتظار شهور الاستحقاقات الكبرى تطرح تساؤلات في كل مكان عن الإجراءات التي يتخذها العرب لمواجهتها والتعامل معها أو على الأقل الصمود في وجهها ومقاومة عواصفها التي لن تقتصر على فريق ولا على دولة ولا على شعب، فالكل سواسية في الأخطار القادمة، والكل يجري في سفينة واحدة لا سبيل الى النجاة فيها إلا بالوحدة والتضامن واتخاذ الإجراءات الإحترازية والإستعداد لجميع الإحتمالات الممكنة والواردة. كل هذه الاستحقاقات تنطلق في المقام الأول من الموقف الأميركي وتعود إليه على رغم تعلق الأمر بالأطراف المعنية بأوضاع المنطقة وبقرارات الحرب والسلم. فعلى صعيد أزمة الشرق الأوسط وصلت الأمور الى ذروة التأزم ولم يعد هناك مجال للتهرب من احتمال انفجار الوضع برمته على مختلف الأصعدة، فبعد أسابيع قليلة تنتهي مهلة الشهور الأربعة التي منحها العرب للولايات المتحدة للتوصل الى حل للأزمة أو على الأقل الى اتفاق على الخطوط العريضة في المفاوضات غير المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولا تلوح في الأفق أية بادرة أمل بأن يغير الإسرائيليون من مواقفهم أو أن يخففوا من تعنتهم، كما لا تلوح في الأفق ملامح أي تغيير في الموقف الأميركي كأن يتخذ الرئيس باراك اوباما قراراً حاسماً بالتخلي عن الإنحياز لإسرائيل وتوجيه ضغوط على حكومة بنيامين ناتنياهو لحملها على الرضوخ لمبادئ الشرعية الدولية وتنفيذ الإتفاقات المبرمة في أوسلو وغيرها والقبول بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس. فالتكهنات حول إمكان حدوث أزمة في إسرائيل وسقوط حكومة المتطرفين وقيام حكومة أقل تطرفاً بعد انتخابات جديدة تبقى مجرد أضغاث أحلام. كما أن الوعود بأن يطلق الرئيس أوباما مبادرة جديدة للسلام يحاول فرضها على الجميع بعد الإنتهاء من استحقاق الإنتخابات النصفية للكونغرس المقررة في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل تبقى بعيدة المنال، لأن اوباما مكبل اليدين وقد يخرج حزبه الديمقراطي مهزوماً مما يعني أنه سينتقل الى حالة الشلل التام. أما إذا حقق فوزاً أو إنجازات فسيبقى مكبل اليدين لإعتبارات كثيرة من بينها الاستعداد للتمديد لولاية رئاسية ثانية وضغوط صقور حزبه المنحازين لإسرائيل. ولا يبقى أمام الفلسطينيين سوى تحقيق المصالحة الوطنية وإنهاء هذه المأساة التي قصمت ظهر القضية وأدمت قلوب العرب ثم العمل على تشكيل حكومة وحدة وتأمين التفاف العرب حولها على اختلاف توجهاتهم وتوحيد صفوفهم بعيداً من تسميات «الإعتدال» و «الممانعة» ليواجهوا إسرائيل والولاياتالمتحدة والعالم أجمع بموقف حازم لا لبس فيه ولا غموض ولا تفسيرات خاطئة: موقف الصمود والقرار والحسم. أما الاستحقاقات الأخرى فهي ليست بعيدة من القضية بل هي أصبحت جزءاً من المشكلة والحل بدءاً من الملف النووي الإيراني الذي يتحول تدريجياً الى ملف متفجر بعد صدور قرار العقوبات الجديدة عن مجلس الأمن الدولي. وعلى رغم محاولة إيران التخفيف من أهمية هذا القرار فإن كل المؤشرات لا توحي بالخير بل تنذر بمواجهة قريبة قد تمتد من الخليج الى الشرق الأوسط تزيد النار سعيراً ولهيباً. فإسرائيل لم تتخلّ عن الخيار العسكري بل هي تستعد له وتحاول فتح ثغرة وإيجاد ذريعة لضرب لبنان وغزة وصولاً الى ضرب إيران بعد أن أعلنت صراحة أنها لن ترضخ لفكرة حصول إيران على سلاح نووي. فيما إيران تستعد من جهتها لكل الاحتمالات وتصعّد وتسعى لجمع أوراق القوة وتلوح باستخدامها في أي وقت. ويبقى لبنان الورقة الأقوى المستخدمة من قبل أطراف النزاع، والبلد الأضعف والأكثر هشاشة واستعداداً للوقوع مرة أخرى في «معضلة» حروب الآخرين على أرضه، فإضافة الى مشاكله الداخلية وعلله الطائفية والمذهبية يبرز الملف النووي الإيراني كنذير شؤم ورعب، فيما تتقدم استحقاقات أخرى خلال الشهور القليلة المقبلة من بينها احتمال صدور القرار الظني عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وتوجيه الإتهامات الى الضالعين باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وسط توقعات بأن تكون لها إرتدادات على مجمل الأوضاع اللبنانية. ومن الاستحقاقات الأخرى القادمة التي تعني الولاياتالمتحدة في الظاهر ولكن إرتداداتها على المنطقة لا لبس فيها، بدء تنفيذ قرار سحب القوات الأميركية من العراق مما سينجم عنه من ردود فعل وتبعات وانعكاسات على العراق كبلد موحد ومستقر ومستقل وعلى دول الجوار وبالتالي على جميع دول المنطقة، وعلى أزمة الشرق الأوسط في مجملها. والأمر نفسه يتكرر في أفغانستان، فالولاياتالمتحدة تخوض الآن غمار مغامرة كبرى في الهجوم الشامل على منطقة قندهار لإخراج حركة «طالبان» منها بعد الهجوم على هلمند الذي لم يحقق متغيرات مهمة في الميزان العسكري. وتقوم هذه المغامرة على نظرية إلحاق الهزيمة ب «القاعدة» ثم ب «طالبان» لحملها على الحوار والقبول بالمشاركة في الحكم وإسدال الستار على هذه الحرب العبثية. ففي حال تحقيق هذا الهدف يأمل الرئيس أوباما أن يبدأ بإزاحة هذا الكابوس عن صدر بلاده ويشرع في سحب قواته تدريجياً مما سيعزز موقفه ويمده بأوراق قوة تضاف الى ورقة الإنسحاب من العراق تساعده في تجديد رئاسته وتعزيز موقف حزبه والإنطلاق نحو تنفيذ السياسة التي تحدث عنها كثيراً منذ ترشحه للرئاسة وأطلق في شأنها الوعود الكبيرة، وبينها الوعد بإحلال السلام في الشرق الأوسط وتحسين صورة الولاياتالمتحدة في العالم واستعادة ثقة العرب والمسلمين بعد سنوات من القطيعة والصراع كما وعد في خطابه الشهير في القاهرة. لكل هذه الأسباب تبدو للعيان أهمية الشهور القليلة المقبلة بوصفها شهور استحقاقات كبرى، فهي مترابطة ومتشابكة ومتداخلة تصب كلها في خانة الخيط الرفيع بين الإنفراج والإنفجار وبين اليأس والأمل. فالسباق قائم وحتمي بين الحرب والسلم وبين التسخين والتبريد وبين التصعيد والتجميد. فهل يستعد العرب للإحتمالات القائمة؟ ثم ألا يستحق هذا الواقع الدعوة لقمة طارئة تضع أسساً إستراتيجية لمواجهة الإحتمالات سلباً أو إيجاباً؟ تلك هي المسألة فهل من حل أو من مجيب؟ * كاتب عربي