تتوالى ترجمات كتاب "النبي" لجبران خليل جبران الى العربية، وآخرها أنجزها الشاعر العراقي سركون بولص قبيل رحيله الأليم. كل ترجمة لهذا الكتاب"الملغز"تضفي عليه سمة أخرى وتقترح قراءة جديدة له، لا سيما إذا كان المترجمون من خيرة أهل القلم. ترجمة سركون بولص، الشاعر الذي عاش في أميركا مثل جبران تختلف عن ترجمة يوسف الخال، الشاعر الذي أسس مجلة"شعر"مشرّعاً أبواب القصيدة العربية على رياح الحداثة العالمية، وتختلف كذلك عن ترجمة الباحث المصري ثروت عكاشة وترجمة ميخائيل نعيمة وترجمة انطونيوس بشير وهي الأولى زمنياً وصدرت في حياة جبران وقرأها ووافق على نشرها قبل أن يرحل. قد تكون ترجمتا الخال وبولص هما الأحدث في صيغتيهما والأقرب الى عالم الحداثة وربما الأكثر تحرراً من الطابع المحافظ الذي وسم لغة جبران في هذا الكتاب، وهي لغة لا يقرأها الأميركيون كما يقرأون عادة لغتهم نظراً الى روحها الشرقية، مثلما عبّر بعض النقاد. وقد تكون الصيغة التي أنجزها سركون بولص أشد حداثة من ترجمة الخال نفسها، فهذا الشاعر الذي ترجم عيون الشعر الأميركي الحديث ولا سيما شعراء جيل"البِيْت"المتمردين على التراث والحياة واللغة، قرأ كتاب جبران"حداثياً"متخطياً البعد الأخلاقي الذي يتميز به والطابع الحكمي الذي كان أحد أسباب رواجه العالمي، وقد يمكن وصفه بپ"الرهيب"بعدما نقل الى أكثر من أربعين لغة. ترجم سركون بولص هذا الكتاب كنصّ وجعل من فعل الترجمة مغامرة داخل النص أولاً وفي اللغة العربية ثانياً، فإذا هو بين يديه، ينساب انسياباً شعرياً من غير أن يفقد جذوته الحكمية. انها ترجمة أمينة جداً وحرة في الحين عينه، وفيّة للنص بقدر خيانتها الجمالية له. ومَن يقرأها يفاجأ ببعض المفردات والجمل والتراكيب التي لم يألفها في الترجمات السابقة، ناهيك عن الإيقاع الداخلي الذي يجري داخل المقاطع كالنهر. استبدل سركون بولص كلمة"المحبة"بپ"الحب"متجاوزاً معظم الترجمات التي اعتمدت المفردة الأولى في ما تختزن من معانٍ تختلف عن معاني"الحب"وتأتلف معها في آنٍ واحد. لا يستطيع شاعر حديث جداً مثل سركون بولص أن يفهم"المحبة"إلا"حباً"، وپ"حباً"في أبعاده المتعددة. ولئن بدت الترجمة الأولى التي وافق جبران على نشرها وكذلك ترجمتا نعيمة وعكاشة على قدر من"القدامة"تبعاً لسطوة الزمن نفسه، فهي تظل جميعاً حاضرة وقابلة للقراءة وقادرة على تقديم اقتراح هو بذاته غاية أي ترجمة. لكنّ كل ترجمة تحتاج الى أن تتجدد، كما يقول الشاعر ت. س. إليوت كل عشرة أعوام، فالترجمة كالإنسان تحيا دورة الفصول وتشيخ في خريفها. هكذا تبدو ترجمة سركون بولص حاجة لقراء هذا الكتاب ? الأسطورة، يجددون عبرها نظرتهم اليه ومتعتهم في الإصغاء الى"خطبه". ولعل الترجمة التي سبقت ترجمة بولص أعواماً قليلة والتي أنجزها الأب العلاّمة اللبناني يوحنا قمير الذي رحل قبل عام وكان مشبعاً بروح اللغة العربية والفلسفة العربية، قد تكون من الترجمات البديعة، لغة ونسيجاً، وقد أعمل فيها قلمه، تشذيباً وتهذيباً وتفصيحاً، محملاً النص الجبراني أكثر مما يحتمل. فجبران أصلاً لم يكن من الأدباء المتحذلقين الذين يولون الشكل كبير اعتناء، وثورته التي أحدثها في اللغة العربية لم تكن إلا ثورة على الأساليب المقعّرة وعلى البلاغة والفصاحة اللتين أرهقتا اللغة العربية طوال قرون. جعل جبران من لغة المعاجم والقواميس لغة الحياة، بقوتها وضعفها، بمتانتها وركاكتها. وقد أخذ عليه أرباب"البيان والتبيين"هنات كثيرة اعترت نصوصه التي كتبها بالعربية. إلا أن ما يلفت في عمل يوحنا قمير هو جمعه بين كتاب"زرادشت"الذي عرّبه بدوره وكتاب"النبي"وعمد الى المقارنة بينهما، لغة وأسلوباً وفلسفة ورؤيا... والمقارنة هنا لم تكن في مصلحة"النبي"الذي بدا أقرب الى العمل"الاستنساخي"? كما يقال اليوم ? لكتاب"زرادشت"على رغم الاختلاف الكبير بين"المصطفى"وپ"زرادشت"، فلسفياً وأخلاقياً. بل إن كتاب جبران القائم على البناء يناقض كتاب نيتشه القائم على الهدم والنقض حتى ليمكن القول إن جبران قلب نيتشه رأساً على عقب. لكن الصدمة التي يحدثها كتاب نيتشه كلما قرئ مرة تلو أخرى، لا يعرفها كتاب جبران المتمادي في حكمته المسالمة والبناءة. وكان جبران قرأ نيتشه جيداً ولم يتأثر به إلا شكلاً أو أسلوباً، فهو بعيد كل البعد من ثورة نيتشه الإلحادية، ومن مواجهته السافرة للتراث اللاهوتي والفلسفات الأخرى. اعترف جبران كما نقل عنه كتّاب سيرته بپ"جبروت"نيتشه وفكره الهدام، لكنه بالغ كثيراً عندما ساوى بينه وبين الفيلسوف الألماني العدمي قائلاً:"لقد انتزع نيتشه الكلام من عقلي. لقد قطف الثمرة من الشجرة التي كنت أتجه إليها". مثل هذا الكلام قد يكون حافزاً على إجراء مقارنة شاملة بين الكتابين تضيء سر العلاقة بين نيتشه وجبران الذي طالما راودته صورة"المصطفى"وقد رأى فيها صورته الشخصية أو أسقط عليها حلمه كشاعر شرقي. وأياً كان الرأي في كتاب"النبي"ومهما اختلف القرّاء حوله، يظل هذا الكتاب من عيون الأدب الحكمي الذي يحتاج العالم المعاصر الى الرجوع إليه، مثلما يرجع دوماً الى عيون الأدب الصوفي والروحاني، بحثاً عن فسحة رجاء تعيد الى الإنسان الحديث جذوره المقتلعة والمفقودة.