ماذا يطرأ في بال الإنسان الصيني عندما تُذكر كلمة "لبنان"؟ قد يذكر الانفجارات والاغتيالات التي يسمع عنها كثيراً في وسائل الإعلام المختلفة، خصوصاً في الآونة الأخيرة. ولكن المثقفين الصينيين، أو أكثرهم، يعرفون أيضاً أن هناك"لبنان آخر"، غير لبنان السياسات والأحزاب والصراعات، وذلك من طريق إنسان لبناني - جبران خليل جبران. يعتبر جبران أول أديب عربي حديث عرفه القراء الصينيون، وترك في الصين تأثيراً أكثر من أي أديب عربي آخر. وكان أول من قدمه إلى القراء الصينيين هو الأديب الصيني ماو دون Mao Dun الذي صار في ما بعد رئيس اتحاد الكتاب الصينيين ووزير الثقافة، فقد ترجم من الانكليزية خمسة مقاطع من كتاب"السابق"، وهي:"الناقدون"وپ"الصحيفة البيضاء"وپ"الأثمان"وپ"البحار الأخرى"وپ"البهلول"، ونشرت في العددين 86 و88 من مجلة"الأسبوع الأدبي"الصينية، في عام 1923، أي بعد ثلاث سنوات فقط من صدور"السابق"في اللغة الإنكليزية. ويعتبر هذا التاريخ بداية معرفة الصينيين بالأدب العربي الحديث، إذ كانوا لا يعرفون عن الأدب العربي شيئاً غير"ألف ليلة وليلة". وفي 1927، ترجم كاتب صيني آخر تشاو جينغ شين Zhao Jing Shen مقاطع من مقالات جبران ونشرها في العدد 279 من"الأسبوع الأدبي". أما عام 1929، فشهد صدور أول كتاب كامل لجبران مترجم إلى اللغة الصينية وهو"المجنون"، وكان المترجم ليو تينغ فانغ Liu Ting Fang درس في الولاياتالمتحدة واشتغل أستاذاً في العلوم المسيحية في جامعة بكين بعد عودته إلى الصين. ثم ترجم ليو تينغ فانغ كتاب"السابق"وطبع منه 100 نسخة على نفقته الخاصة من دون أن تباع في السوق. من خلال هذه الترجمات الأولى لأعمال جبران، تعرف محبو الأدب الصينيون إلى ذلك الأديب اللبناني، ولكن شهرة جبران لم تكبر في الصين إلا بعد صدور ترجمة"النبي"على يد الأديبة الصينية بينغ شين Bing Xin. ففي 1927، قرأت بينغ شين مصادفة"النبي"عند صديق أميركي، فأحبت"الحكمة العجيبة التي تفوح بالنفحات الشرقية وبالأسلوب الشاعري الجذاب". وفي عام 1930، قرأت بينغ شين في أيام النقاهة ذلك الكتاب جديداً، وتيقنت من أنه يستحق الترجمة حقاً، فترجمته فقرة فقرة وأرسلته إلى إحدى الصحف في مدينة تيان جينغ للنشر. وبعد أن اكتملت الترجمة عام 1931، نشرتها في دار الهلال في شانغهاي. وعلى رغم أن ترجمتها هذه تعتبر باكورة ترجماتها الأدبية، إلا أنها تمتاز بالروعة. لذا، يمكن القول إنه لحسن حظ القراء الصينيين، تقوم أديبة صينية مهمة بترجمة عمل أدبي لجبران. فلا غرابة إن شاعت هذه الترجمة في الصين واعتبرت من الروائع الأدبية في اللغة الصينية وأعيدت طباعتها مرات كثيرة من يوم صدورها حتى الآن. ولم تنته علاقة بينغ شين بالأدب العربي عند هذا الحد، إذ انها ترجمت"رمل وزبد"عام 1963، ونشرتها في مجلة"الآداب الأجنبية"الفصلية عام 1981. وفي عام 1997، أصدر الرئيس اللبناني مرسوماً رئاسياً يحمل الرقم 6146 لمنح السيدة بينغ شين البالغة من العمر 97 سنة وسام الأرز الوطني برتبة فارس تقديراً لجهودها في تعريف القراء الصينيين الى جبران. توقفت حركة الترجمة لجبران في الصين فترة طويلة حتى عام 1957، عندما نشرت مجلة"الآداب العالمية"ثلاث مقالات لجبران هي:"نظرة إلى الآتي"وپ"العبودية"وپ"البنفسجة الطموح". وفي العام التالي، نشرت المجلة"فلسفة المنطق أو معرفة الذات". وفي عام 1959 نشرت"أغنية الموج"وپ"أغنية المطر"وپ"أغنية الجمال". وفي عام 1960 نشرت دار"الشعب"للأدب في بكين"مختارات من القصص اللبنانية"التي ضمت بين قصص أخرى قصتين لجبران:"مرتا البانية"من مجموعة"عرائس المروج"وپ"وردة الهاني"من مجموعة"الأرواح المتمردة". وكل هذه الأعمال المكتوبة بالعربية ترجمت إلى الصينية عن اللغة الروسية، ذلك أن المترجمين باللغة العربية كانوا لا يزالون قليلين جداً في ذلك الوقت. تعرضت الصين لما يسمى بپ"الثورة الثقافية"ابتداء من أواسط الستينات إلى آخر السبعينات من القرن المنصرم، وهي في حقيقة أمرها أقرب إلى كارثة ثقافية، حيث منعت كل النشاطات الثقافية بما فيها الترجمات الأدبية. لذا، توقفت الترجمة الجبرانية تماماً ولم تتغير الحال إلا في مطلع الثمانينات، أي بعدما بدأت الصين تنتهج سياسة الإصلاح والانفتاح في المجالات كافة. ففي عام 1980، نشرت مجلة"الآداب العالمية"بعض المقالات والقصص لجبران في عدد خاص به ومعظمها ترجم من العربية مباشرة. وفي عام 1981، نشرت مجلة"الآداب الأجنبية"الفصلية"رمل وزبد"الذي قامت بترجمته بينغ شين. وفي عام 1982، صدر عن دار"الشعب"في مقاطعة هونان كتاب يضم"النبي"وپ"رمل وزبد"بترجمة بينغ شين. أما عام 1984، فقد شهد طفرة في الترجمة الجبرانية لإحياء الذكرى المئوية للأديب، إذ صدرت مجموعتان لأعماله المترجمة، إحداهما"دمعة وابتسامة: مختارات من أشعار جبران النثرية"، وقد ضم الكتاب الترجمة الكاملة لپ"دمعة وابتسامة"وپ"المواكب"، إضافة إلى بعض المقالات في"العواصف"وپ"البدائع والطرائف". أما الكتاب الآخر فهو"الأجنحة المتكسرة: مختارات من أعمال جبران"الذي جمع معظم قصص جبران العربية وبعض أشعاره النثرية. وهذه الأعمال ترجمها من العربية مباشرة تشونغ جي كون Zhong Ji Kun وهو أستاذ في جامعة بكين والرئيس الحالي لجمعية بحوث الأدب العربي في الصين، وجلال إي هونغ YI Hong باحث في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، وياسين يانغ شياو بو Yang Xiao Bo أستاذ في جامعة اللغات في بكين وغيرهم... وكان بروز هؤلاء في الترجمة الأدبية يدل على نضج الترجمة العربية في المضمار الأدبي في الصين. هكذا، تتواصل حركة الترجمة لأعمال جبران سواء من الإنكليزية أو من العربية ولا تكاد تخلو سنة من صدور كتاب أو أكثر لأعماله المترجمة طوال الثمانينات والتسعينات. وفي عام 1994، نشرت دار"الشعب"في مقاطعة قانسو المجموعة الكاملة لأعمال جبران، وتقع المجموعة في ثلاثة مجلدات محتوية على كل أعمال جبران العربية والإنكليزية ورسائله ونصوصه المتفرقة، إضافة إلى كثير من لوحاته. وفي العام نفسه نشرت دار"خه بي"للتعليم ترجمة أخرى لأعماله الكاملة تقع في خمسة مجلدات. وفي عام 1998، نشرت دار"الشعب"نسخة ثالثة لأعماله الكاملة تقع في خمسة مجلدات أيضاً. وظهرت منها"عاصفة من الشرق - سيرة جبران خليل جبران"الذي ألفه الأكاديمي جلال إي هونغ. وبفضل جهود المترجمين والباحثين أصبح جبران ظاهرة أدبية في الصين. ففي استفتاء أجرته صحيفة"القراءة الصينية"عام 2000، جاء كتاب"النبي"ضمن مئة أروع عمل أدبي عالمي وصيني في القرن العشرين. وفي عام 2004 اختارت طبعة جديدة للكتاب المدرسي الثانوي لمادة اللغة الصينية مقطوعتين لجبران هما"أغنية الموج"وپ"أغنية المطر"ضمن نصوص المطالعة المقترحة، مما يعني أن جبران سيكون شخصية معروفة ومقروءة من جانب كل متعلم صيني. وفي أوائل عام 2005، أنشأ محب مجهول لجبران موقعاً صينياً خاصاً به على الشبكة http://prophet.blogchina.com جمع فيه كل أعمال جبران المترجمة إلى الصينية وبعض أعماله الإنكليزية والعربية وتلك المترجمة إلى الفرنسية والإيطالية والإسبانية، إضافة إلى صور لجبران وبلده لبنان واللوحات الفنية بريشته، والأخبار والأبحاث عنه وتعليقات الأدباء والقراء ومسابقات على تفسير أعماله أو أفكاره. وقد بلغ زوار هذا الموقع 40000 زائر خلال أشهر عدة منذ انطلاق هذا الموقع الغني. وفي رأيي أن سبب رواج جبران في الصين يرجع إلى أن أدبه من النوع الذي يصور الشعور والأحاسيس الإنسانية العامة التي ينفعل بها القراء من جميع الأجناس، وإلى جنوحه إلى الحكمة والتعابير الشعرية مما يلائم أذواق الصينيين التي كسبوها من تراثهم الشعري والفلسفي العريق. كما لا يمكن أن ننسى فضل الأديبة بينغ شين التي أثرت المكتبة الصينية بترجمتها لپ"النبي"وپ"رمل وزبد"، فنالت إعجاب أجيال من القراء بالأديب جبران وبالمترجمة معاً.