ربما تكون المسافة طويلة بين العاصمة الضوضائية المتلبّدة بالرطوبة ودرجات الحرارة العالية، الى الجبل الهادئ النقي الأخضر حيث مهرجانات بيت الدين. لكن الهدف يحيل السفر اللطيف الذي يريح النظر والأعصاب المتشنّجة من قساوة المدينة، يختصر الوقت، فلا ضيق بالدقائق التسعين، ولا بالمنعطفات القوية أو الطريق غير المعبّدة في بعض القرى والبلدات. والهدف سهرة أرجنتينية بامتياز، على إيقاع موسيقى ورقص التانغو الكلاسيكي، في ضيافة الأمير الشهابي. تحت ضوء القمر الذي يلفّه الضباب، وذرات الندى المتناثرة على الكراسي، وقشعريرة تلسع الجسد من نسيم جبلي عليل، طلعت أصوات موسيقى الأكورديون والكمان والبيانو والكونترباص، لتلامس مسامع عشاق الثقافة اللاتينية. من فوق منصّة عالية وضعت فوق المسرح، أطلّت العازفة وقائدة الفرقة الموسيقية إريكا دي سالفو، بشعرها الأحمر الطويل وتاجها الماسي، معلنة بهزّة رأس خفيفة بدء"الرحلة"الى بوينس آيرس. فامتزج نسيم الباحة الخارجية لقصر بيت الدين، بإيقاعات حرارة العاصمة الأرجنتينية البعيدة، ليُطلق العنان لأجساد عشرات الراقصين والراقصات بأزيائهم المخملية الأنيقة، من فرقة"زاوية كارلوس غارديل"العريقة. مشاهد العرض المنقسمة الى وصلات غنائية وموسيقية خالصة، إضافة الى اللوحات راقصة، فتحت الباب على عالم أرستقراطي حالم. واستطاعت الفرقة الإبحار بنا الى زمن غابر لتنقل لنا صورة المجتمع الأرجنتيني بكل جمالياته وأحزانه وشفافيته، من خلال أزياء النساء ال"ديكولتييه"والشفافة وال"دانتيل"، وأزياء الرجال بالبزات ذات القماش الثمين وربطات العنق الملوّنة، وتصفيفات الشعر الأنيقة المتناسقة مع جو السهرة الحالم. وشكلت رقصات التانغو الكلاسيكية المحترفة التي أدت الفرقة عشرات اللوحات منها، مزيجاً من رموز سريّة تنطق بلغةٍ خاصة، معبّرة عن الحب والعشق والوله والغيرة والكره والغضب والثورة. يقع التانغو في قلب هويّة الأرجنتين الثقافيّة، وهو بحسب خورخي لويس بورخيس،"أعظم ما أنتجت الأرجنتين وحامل اسمها على وجه الأرض". ويقال أنّ كلمة تانغو أقدم من الرقصة نفسها، وأنّه عام 1803 وردت في معجم"Real Academia Espa–ola"على أنّها من مشتقات كلمة"t‡ngano"أي صخرة أو عظمة تستخدم لأداء لعبة تحمل الاسم نفسها. ولكن، بحلول عام 1889، أورد مرصد اللغة الإسبانيّة مدخلاً ثانياً لمصطلح"tango"باعتباره"احتفالاً شعبياً ورقصاً يؤديه سكان أميركا السود". ولكن انقضت 100 عام قبل أن يُعرّف القاموس مصطلحtango على أنّه"الرقصة الأرجنتينيّة العالميّة التي يتحد فيها شخصان في الحركة على وقع إيقاع 2/4". الفرقة التي أحيت ثلاث ليال في بيت الدين ذائعة الصيت في العالم، خصوصاً في بوينس آيرس، لها تاريخ في تقديم الحفلات والمهرجانات، وهي أبدعت بإيصال إحساس كل مَن وقف على الخشبة الى الجمهور. وتفاعل الجمهور الذي يتكلم بعضه الاسبانية، مع الأغاني التي أداها كل من خافيير دومينغاز وباتريسيا لا ساغا، بروح وإحساس مميّزين ينبعان من القلب. فكانت الاسبانية تتردّد بسهولة على ألسنة بعض كبار السنّ، خصوصاً ممن عاشوا في الأرجنتين حيث توجد جالية لبنانية كبيرة.