يطل أدب آخر يرتبط بعمر معين في رواية القاص والروائي اللبناني جورج شامي الجديدة الصادرة عن دار رياض الريس، بيروت. تفيض لغة"عصير الزنزلخت"عن الحاجة القصصية، وترتبط بزمن حدّد الأدب بالنفس الإنشائي المديد البعيد أحياناً من البساطة اللغوية. تبدأ الرواية بإعلاء المثال وتتطور الى التعالي عليه بعد كشف زيفه عبر قصة تشبه سيرة صحافي راحل. يلتبس الدافع بين الحاجة الى التذكر، بوجهيه المشرق والقاتم، والتكريم، بعينين مفتوحتين، لشخص غدرت حياته بطموحاته، وغاب من دون أثر. يخفي الراوي، في سرد تسجيلي منتظم زمنيا، سبب غياب أسرته عن حياته واستعاضته عنها بأستاذه الذي يواكب رمز الأب فيه كونه زميلاً منافساً. وإذ يراوح في صراعه بين حاجته الى الأول ورغبته في غلبة الثاني، ينهار المثال ويشكك القطب الأصغر في العلاقة في استحقاق ذلك الأكبر هالته. يتلازم صراعان بين الرجلين: فردي يزهو بالنجاح الذاتي ويفصل فشل الآخر الأخلاقي والشخصي والمهني، وزمني يفضح ازدواجية المعايير لدى جيل الآباء، صاحب السلطة. يجمع الأستاذ إبراهيم بين تدريس ثلاث مواد والإشراف على الندوة الأدبية في مدرسة معروفة. برز الراوي بقصصه المأسوية، وتعدت موهبته مستوى رفاقه الى"حضور آخر أشبه ما يكون بحضور المبدع السائر على خطى الواقعية العالمية"الصفحة 18. يعزّز اتساع الموهبة العلمية بوسامة وأناقة وجاذبية جنسية تدفع كلا العازبات والمتزوجات الى التصريح العلني ! عن رغبتهن به وتمني خيانة الأزواج معه الصفحة 24. يبدأ التساؤل الصامت عندما يسبق الطالب مدرسه الى الزواج، مؤشر الاستقلال والمسؤولية، ويغرس الثاني الشك في طهارة حبيبة الأول. يرفض المعلم فتاة"أعرف أن أحداً في الكون قد باسها غير أمها"فيبرر الراوي الاحتمال بالتفكير ان من"لم تعرف للقبل معنى فتاة غبية"والتأكيد لنفسه ان تحدي أستاذه السابق ينم عن تحجر أو رغبة سادية في قتل حبه الصفحتان 10 و11. يواكب الرغبة في التوحد مع المثال احتفاظ بمسافة حذرة معه تتيح المقارنة والتنافس."طار"الشاب فرحاً عندما اكتشف أن أستاذه يعيش في الشارع نفسه في الأشرفية، ثم عمل معه في الصحيفة نفسها وعادا ليلاً معاً الى منزليهما. يطمح الى تكوين اسم لامع في الصحافة والأدب، ولئن افتقر إبراهيم الى الوقت لإنهاء رواية بدأ بكتابتها، بقي واثقاً من أن انتظاره الطويل سوف"ينجلي عن رائعة"الصفحتان 48 و53. يرى الشاب أستاذه يتسلل الى غرفة امرأة متزوجة في الحي ذات ليلة فيغضب لتحول"البطل والمثال"سالب أعراض، واصفاً الاكتشاف بپ"اللعنة الكبرى". على أن المنطق الذكوري ينتصر بتألمه لأن المرأة لا تستحق بطله، وكبر فيه"شجاعته بالإقدام على مثل هذه المغامرة و وقوة عضلاته بالتسلل من النافذة كالفرسان المغامرين"الصفحة 46. تنطفئ اللمعة الليبرالية التي بزغت عند قبوله قبلة الفتاة قبل الزواج فيبرئ أستاذه ويلوم المرأة وحدها. هذه داعرة لا يشفع بها ان زوجها يكبرها بعشرين عاماً ويغيب عنها نصف الأسبوع، وعليه معاقبتها وقبض ثمن لسكوته من دون أن يفصح عن الطريقة. يضفي الرومانسية"البرونتية"على فعلته الكريهة عندما يؤكد ان إبراهيم يتخيل أنه يضاجع حبيبته ميرا التي مرضت بالسرطان وتوفيت قبل بلوغها العشرين، وان موتها جعله شبقاً. غير ان التبرير لا يلغي الصراع والخيبة من إنسانية أستاذه، وتكتسب المرارة طابعاً مادياً عندما يضع بضع حبات زنزلخت في فمه ويرسل"جعير إنسان جريح كووا جراحه بالحديد المحمى". يعمم الإدانة الأخلاقية على النساء جميعهن، ويجعلهن بمرجعية دينية - اجتماعية أصل الشر الذي يصيب الرجل. في حديث عام يوافق الأستاذ الغافل عن أزمة تلميذه على تحديده المذنب:"ما دامت في الكون امرأة واحدة فشبح الخيانة يتربص بالرجال". يتبادل الراوي الأدوار مع إبراهيم فيصبح هو المعلم، وتنتهي محاسبته سلوك"الأب"بقتله. يتمنى أن يخرج أستاذه من"شرنقة العلاقة الجنسية الرخيصة"التي تدمر بيتاً وتضيع شبابه. يفضّل الانتحار على أن يصل به"الحب الى هذا الدرك"تعليقاً على إهمال إبراهيم نفسه بعد موت ميرا. وإذ يحب هذا زوجة ديبلوماسي تعثر طلاقها لزواجها إسلامياً ومسيحياً، يرى الراوي المفارقة في قوله انه لن يتزوج إلا فتاة لم يقبلها أحد غير والدتها. يحافظ على علاقته السابقة على رغم حبه الجديد الكبير فيمضغ الراوي مجدداً حبات الزنزلخت ويتناول سكينا ليقتله ويطلق جعيراً. يضيف نفسه الى ضحايا الخيانة، وتلتبس مشاعره لكن المنافسة تسفر عن فائز مستحق. "خذلني وحطم كل الآمال التي عقدتها عليه"يقول التلميذ الذي أصبح هو الأستاذ بعدما تقدم في"كل المجالات التي خضناها معاً"وصار مديره. وإذ يتزوج زوجة الديبلوماسي تجلب هذه اللعنة الى حياته فيمضي وقته شبه هارب من امرأة لم يسعد معها، ويشكو ولداه من اضطراب سلوكي. ينشر جورج شامي مخطوطة"ميرا"غير المكتملة في آخر روايته بإخلاص يشوبه التنافس الدائم."من سيكون شاهداً على عصره، مرشداً أو مؤرخاً، ومن سيعيش في أسفل دركات الحرمان، من سيكتب أعمالاً خالدة ويحوّل البشاعة جمالاً؟". يشمل الخيار اللغوي لشامي عبارات شائعة من نوع"على قدر أهل العزم تأتي العزائم"وأخرى مشغولة نرى مثالاً عليها في الصفحتين 57 و79."لم يكن في حياتي قهقهة مجنونة ولا هلوسة هستيرية لأن بصيرتي كانت أكثر عقلانية من بصري...". و:"كيف ان الشكل والعبارات، وخصوصاً العبارات الكنسية، تأخذ لوناً فيه روعة الإبداع، وتتكيف الرغبات النظيفة باللون الأزرق السماوي ممزوجاً باللون الأصفر الترابي". يقول إبراهيم إن الصحيفة التي يعمل فيها بزت الصحف التي سبقتها زمناً و"تلك التي ستصدر في المستقبل"الصفحة 26 ويصف تلميذه الفجر بالغبي الصفحة 59.