لم يواجه شعب في العصر الحديث تحديات جساما كما واجه الشعب الفلسطيني، ولكن رغم كل تلك الكوارث والمصائب التي واجهها على يد الصهيونية العالمية واسرائيل والإدارات الأميركية المتعاقبة، والادارة البريطانية وبعض الدول الكبرى، بل ومن بعض أبناء جلدته، بقي صامدا لا تهتز له ارادة ولا يكل ولا يمل من حركة النضال والجهاد، بل انه كلما زاد العدو وأعوانه من بطشهم ضده زاد اصراره على الكفاح من اجل تقرير المصير، رافعا شعار التحرير او الشهادة! ورغم تكالب الاعداء وقوة شوكتهم لم يركن شعب فلسطين للاستسلام، فالمجاهدون الفلسطينيون لا يقاتلون اسرائيل فحسب بل يقاتلون دول الاستكبار في انحاء العالم الظالم وعلى رأسه اميركا التي تقف مع الباطل وتدعم لواء الظلم في عصرنا هذا العقيم! وليت الأمر وقف عند هؤلاء بل ان مجاهدي فلسطين يتلقون الطعنات حتى من بني جلدتهم من بعض العرب ومن الفلسطينيين أنفسهم للأسف. ولكن رغم كل ذلك التكالب من دول الاستكبار ورغم الخذلان والدسائس فإن الفلسطينيين لم يفل لهم عزم ولم تكل لهم ارادة وشعارهم الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم ايمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل. وتمر السنوات سريعا منذ وعد بلفور وتعصف بالعالم حالة شديدة من الكساد الاقتصادي عام 1929 وبعدها بعشرة أعوام وتحديدا عام 1939 اندلعت الحرب الكونية المدمرة الثانية وبعد ان انطفأ لهيبها عام 1945 وخرجت بريطانيا العظمى وقد تلاشت قوتها وسطوتها لتتولى الادارة الأميركية التي خرجت من تلك الحرب قوة عظمى على حطام الامبراطوريات البريطانية والعثمانية والفرنسية والالمانية واليابانية، بعد أن استثمرت الحرب الثانية لصالحها بدخولها بعد أن أنهكت الحرب الجميع فجاءت من بعيد متذرعة بما فعله انتحاريو بيرل هاربر بالبوارج الأميركية! في تلك الفترة ومع ميلاد الأممالمتحدة التي قامت على انقاض عصبة الأمم تولت الادارة الاميركية ودول أخرى رعاية الجنين الصهيوني ليعلن قرار التقسيم عام 1947 ثم يلحق به تأسيس دولة اسرائيل على ارض لا يملك فيها الاسرائيليون ذرة رمل واحدة، لكن القوة تفرض ما قد يكون مستحيلا ففرضت بريطانيا واميركا اسرائيل على العرب بالقوة. إن حقائق التاريخ تقول: إن القوة قد تحقق نصرا لكنها لا تكسر ارادة الشعوب، وليست فيتنام عنكم ببعيدة، فالإدارة الأميركية غزت فيتنام بالحديد والنار ولكنها رغم كل بطشها وجبروتها لم تستطع كسر الارادة الفيتنامية. وغزا الاتحاد السوفياتي الذي كان احد اقوى دولتين في العالم افغانستان عام 1979 وصب عليها نيران دباباته وجحيم طائراته فواجه شعب افغانستان ذلك الغزو الجائر بعدد وعتاد لا يتناسبان مع ما يملك الغازي ولكنه كان يملك الارادة فكان له النصر بل وكانت الهزيمة سبب تفكك تلك الإمبراطورية التي كانت عظمى. ويعيد التاريخ نفسه فقد خرج الروس من الباب الأفغاني ودخل الاميركيون والبريطانيون من الشباك الى افغانستان لتبدأ معركة أخرى بينه وبين الارادة والقوة ولا تزال الحرب سجالا بين القوة والارادة، وينطبق ذلك على العراق فمنذ اكثر من خمس سنوات مضت والنزال شرس بين القوة المحتلة والارادة الرافضة للاحتلال، والصراع يزداد حدة يوما بعد آخر حتى تجاوز عدد الاميركيين الذين قتلوا 4100 رجل، هذا عدا الجرحى والمعاقين الذين يبلغون اضعاف ذلك. والفلسطينيون، رغم الانقسام الداخلي الخطير يعتبرون مثالا حيا لقوة الإرادة، فقد وقفوا بقوة ضد المحتل الاسرائيلي الذي ولد على أرضهم بضغوط الدول الكبرى وفي مقدمها أميركا وبريطانيا بقرار أصدرته الأممالمتحدة، وسرعان ما انقلبت الدولة العبرية على المنظمة التي منحتها عضويتها بل منحتها سبب وجودها ليسجل التاريخ ان اسرائيل أول دولة تخرق كل قرارات المنظمة التي أعلنت ولادتها وأصبحت معروفة مشهورة بتجاهلها لقرارات الأممالمتحدة ومجلس أمنها وقواعد القانون الدولي والأعراف والشرعية الدولية. ولماذا لا، فإسرائيل تمثل تجسيدا للفكرة العنصرية المعادية للشعوب المستمدة من مبادئ الحركة الصهيونية كما قننها هيرتزل وجابوتنسكي وطبقها حاييم وايزمان وبن غوريون ومن جاء بعدهم من قادة اسرائيل! ومنذ تأسيس هذا الكيان العنصري الاستيطاني عام 1948 ظل يواصل اعتداءاته على العرب والفلسطينيين فكانت حرب 1948، ثم عدوان 1956 وتلته حرب الأيام الستة 1967 عندما ابتعلت اسرائيل بعض أراضي الدول العربية وكل الأراضي الفلسطينية، ثم تتابعت الحروب فكانت حرب 1973، وحرب 1982 ضد لبنان ثم حربا 1996 و2006 على البلد نفسه والحبل على الجرار فهذه اسرائيل ترعد وتزبد وتنذر ايران وغير ايران وتخطط لاسرائيل الكبرى من الفرات الى النيل! لكن السؤال الجوهري، هل سجلت قوة اسرائيل انتصارا ضد الارادة الفلسطينية بعد كل هذا البطش على مدى أكثر من نصف قرن؟ والاجابة هي النفي القاطع، لأن الشعب الفلسطيني مصمم على المقاومة قوي العزيمة ماضي الارادة لذلك لم يكسره كاسر ولم يثنه ثان ولن يضع السلاح حتى تتحرر فلسطين. إن الفلسطينيين على قناعة انهم يوما ما غير بعيد سيرون فلسطين محررة، حتى أن الفلسطينيين الذين طردوا من منازلهم وغادروا الأرض الطيبة يحملون مفاتيح بيوتهم التي استولى عليها اليهود، وارادة الفلسطينيين تقول إنهم عائدون هم أو أحفادهم أو أحفاد أحفادهم ليفتحوا الأبواب بتلك المفاتيح حتى وان علاها الصدأ. تلك هي الارادة وهي المفتاح الحقيقي لفتح أبواب النصر مشرعة للعودة المظفرة الباسلة! إن اسرائيل القوة النووية الخامسة على المستوى الدولي كيان عدواني لا يتورع عن شن الحروب على الجيران وما بعد الجيران اذا ضمنت الفوز بحرب قصيرة الأمد، واذا قلنا بأنه لا توجد دولة على وجه الكرة الأرضية من دون صراع، الا أن اسرائيل تبحث عن خلق الصراعات وشن الحروب لأنها أصلا ولدت من رحم الصراعات! إن الفلسطينيين يفهمون حقيقة اسرائيل العدوانية ولذا وطنوا أنفسهم على مجابهة عدوانها واعدوا عدتهم لصد كل اعتداء من اجل حفظ حقوقهم وتقرير مصيرهم ولن تكسر ارادتهم القوة والبطش، وتتمثل عظمة كفاح الشعب الفلسطيني في انه شعب قليل العدد وبلا نصير ورغم ذلك ظل صامدا لا يتذمر لمدة ستين عاما. شعب تقف معظم دول العالم ضده ماديا ومعنويا حتى ان دول الاستكبار تجرمه حين يدافع عن حقه وتلصق به تهمة الارهاب، فكل الشعوب اذا انتهكت حرمة أراضيها يساندها العالم لاستعادة تلك الحقوق الا شعب فلسطين، فإن العالم ينكر عليه حمل السلاح لتحرير أرضه ويصمه بالارهاب بينما يقول عن الاسرائيليين المحتلين انهم أصحاب حق يدافعون عن أمنهم! وانها أضحوكة هذا الزمان، ودليل ظلمه، المحتل بريء وصاحب الأرض مجرم، المحتل صاحب حق، وابن الوطن دخيل وظالم، والفلسطيني لم تؤثر فيه هذه الأحكام الجائرة، فرغم آلاف القتلى والجرحى والمعاقين والمشردين وأكثر من 11 ألف اسير يقبعون في سجون اسرائيل لا لشيء إلا لأنهم يكافحون من اجل تقرير مصيرهم، ظل يحارب من اجل تقرير مصيره وهو ما يكفله القانون الدولي وتضمنه ميثاق الأممالمتحدة، والشعب الفلسطيني وهو يدافع عن حقه يدرك انه يعيش في مجتمع دولي تحكمه المصالح والقوة وان الضعيف لا ناصر له ولا مجيب، فقابل الفلسطينيون قوة اسرائيل بقوة مثلها. إن الاسرائيليين يجب أن يدركوا أنه لا يمكن أن يتحقق لهم الأمن التام ما دام هناك احتلال، والسلام والاستقرار والمصالح لا يحميها السلاح بل العدل، ويجب أن يدرك الاسرائيليون كذلك انه مهما طال الزمن فإن الفلسطينيين لن يقبلوا الخضوع لمطالب اسرائيل والتخلي عن حقهم المشروع، فرغم حروب اسرائيل التدميرية وآلتها العسكرية الفتاكة لم تستطع هزيمة الفلسطينيين، هذا لأن الفلسطينيين يدركون أن الهزيمة زوالهم وخروجهم من التاريخ الى الأبد، وهذا مرفوض عند الشعب الذي جاهد وناضل لأكثر من نصف قرن من الزمان! ان الصراع العربي الاسرائيلي عندما يؤرخ له نجد انه بدأ بالفعل عام 1917، ومنذ ذلك التاريخ لم تستطع المنظمات والعصابات الصهيونية ثم اسرائيل منذ تأسيسها فرض ارادتها، بل ولم تستطع أن تهزم الفلسطينيين لأنهم يملكون الارادة، والارادة تعني القوة، ولن تستطيع اسرائيل مهما حاولت مع هذه الارادة دفعهم خارج التاريخ. اذاً الصراع بين الفلسطينيين واسرائيل هو صراع بين القوة والارادة القوة العسكرية الاسرائيلية الضاربة بما فيها القوة النووية والترسانة الضخمة من الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، ويعكس قوة اسرائيل وأطماعها التوسعية تصريح شارون إن منطقة الأمن الاسرائيلي تمتد من باكستان الى شمال افريقيا، ومن تركيا الى الخليج العربي، ومن حق اسرائيل أن تضرب أية قوة في هذه المنطقة، ومن هنا نجد تفسيرا للتهديدات الاسرائيلية الموجهة ضد ايران! وتقف الارادة الفلسطينية الصلبة في وجه هذه القوة الضاربة، يقف الفلسطينيون بسواعدهم وأجسادهم وصدورهم صغارا وكبارا رجالا ونساء، سلاحهم الايمان القوي بقضيتهم وحبهم غير المحدود لأرضهم، يتصدون لعدوهم الغاشم وخصمهم العنيد بأسلحة يصنعونها بأيديهم تارة وبالحجارة تارة أخرى، الامر الذي أجبر اسرائيل على الاعتراف بقوة إرادتهم مثلما اعترف بذلك المجتمع الدولي، لأن الفلسطينيين يدافعون عن حقوقهم المشروعة وتقرير مصيرهم. وسيبقى الصراع بين قوة الارادة الفلسطينية والقوة الاسرائيلية الغاشمة مستمرا حتى تنتصر ارادة الحق على الباطل. وليفهم الاسرائيليون أن الهزيمة هي هزيمة الارادة والفلسطينيون عقدوا العزم على أن لا تهزم ارادتهم! * مفكر سعودي - رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية