فقدت الأوساط الثقافية والأكاديمية في مصر أخيراً أحد أبرز المؤرخين المصريين وهو الدكتور رؤوف عباس رئيس "الجمعية التاريخية المصرية" عن عمر يناهز 69 سنة. وعلى رغم أن عباس لم يحقق الشهرة الإعلامية ذاتها التي حققها مجايلوه من مؤرخي التاريخ الحديث لا سيما عبدالعظيم رمضان ويونان لبيب رزق إلا انه حقق في الحياة الثقافية حضوراً متميزاً من خلال ربط إنجازه العلمي بتفاعلات القوى التقدمية في المجتمع المصري، وهي القوى التي وضعته دائماً في المنزلة ذاتها التي وضعت فيها المؤرخ محمد أنيس الذي رحل في ثمانينات القرن الماضي بعد أن جعل من القضايا التاريخية مجالاً للنقاش العام. ويعرف دارسو التاريخ الدور الذي لعبه رؤوف عباس في تأسيس مدرسة مصرية للتاريخ الاجتماعي طورت من مفهوم التاريخ بحد ذاته وحررته من النظرة الضيقة التي كانت تربط التاريخ بالأحداث السياسية المباشرة وتغفل عن تفاعلات القوى الاجتماعية المهمشة. ولا شك في ان رؤوف عباس حين غامر بارتياد هذا الطريق نهاية ستينات القرن الماضي كان تحت تأثير الكتابات الماركسية التي وجدت طريقها الى الجامعة من طريق مؤرخين متميزين مثل أنيس وأحمد عبدالرحيم مصطفى وأحمد عزت عبدالكريم والأخير كان الأكثر تأثيراً في عمل عباس ومجايليه يونان لبيب رزق وعبدالعظيم رمضان وعبدالرحيم عبدالرحمن من مؤرخي الجيل الرابع من أجيال المؤرخين المصريين، فقد ضم الجيل الأول صبري السوربوني وشفيق غربال ومحمد رفعت وكلهم ممن درسوا في الجامعات الأوروبية، وضم الجيل الثاني عزت عبدالكريم وعبدالعزيز الشناوي وفؤاد شكري وشمل الجيل الثالث أسماء مهمة أبرزها أحمد عبدالرحيم مصطفى ومحمد أنيس. ويعلم القارئ المتفحص لكتابات رؤوف عباس إخلاصه لمدرسة"التاريخ الاجتماعي"، كما تجلت في مؤلفاته المهمة والتي زادت عن ثلاثين مؤلفاً من أبرزها:"الحركة العمالية في مصر"وپ"النظام الاجتماعي في مصر في ظل الملكيات الكبيرة"وپ"مذكرات محمد فريد"وپ"الحركة العمالية المصرية في ضوء الوثائق البريطانية ... 1924- 1937"وپ"جماعة النهضة القومية"وپ"السياسة الأميركية والعرب"وپ"جامعة القاهرة.. ماضيها وحاضرها". وفي عمله الأكاديمي وكنت من تلاميذه المباشرين ركز رؤوف عباس على مجموعة من الأفكار وآليات العمل التي قامت في شكل أساسي على تأهيل جيل جديد من المؤرخين يتجاوز النظر للتاريخ بوصفه نتاجاً لتفاعلات وصراعات سياسية إلى جانب رفض قولبة تاريخ المجتمعات في إطار ما أطلق عليه"النظريات النموذج"التي تحاول تفسير التاريخ من منظور أحادي النظرة، يتسم بالصرامة والتعميم، ويتعمد إغفال التباين الواضح بين المجتمعات. وكان الراحل يرى أنه من غير المقبول استخدام إطار نظري بعينه لتفسير تطور مجتمع ما تختلف ظروفه ومراحل تطوره اختلافاً بينا عن المجتمعات الأخرى. وعلى رغم انتماءاته التقدمية، إلا انه ظل يؤكد رفضه القوالب النظرية مثل الاستبداد الشرقي أو النمط الآسيوي أو نظرية دعاة التحديث ونظرية المجتمع الخراجي، مؤكداً أن ليس ثمة قانون واحد يحكم تطور المجتمع، أي مجتمع. وبحسب دراسة عنه أعدها الدكتور ناصر إبراهيم فقد تمثل المنطلق الفكري الثاني، في دراسات وبحوث رؤوف عباس، في رفضه التركيز على تفسير التطور والتغير الذي يطرأ على المجتمعات من خلال ما يعرف بپ"المؤثر الخارجي"فذلك ليس سوى عامل واحد، وحركة تطور المجتمعات تتسم بالتعقيد والتداخل بين العوامل الذاتية الكامنة في المجتمع، والتي تدفع حركته التاريخية، وبين العامل الخارجي الممثل في"مجيء الغرب"الذي شكَّل تحدياً قوياً للمجتمعات التي غزاها واستعمرها. وكان عباس يرى أنه من الضروري وضع"المؤثر الخارجي"في سياقه التاريخي العام، وتقويم مساهمته الحقيقية في التغيير من دون مبالغة، ومن دون أن نغض الطرف عن العوامل المحلية التي تلعب - في تقديره - دوراً محورياً في التغيير. في هذا السياق جاء رفضه لاعتبار مجيء الغرب ممثلاً في الحملة الفرنسية 1799- 1801 شرطاً أساسياً لقيام نهضة مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وفي اختياراته للأعمال التي وقف وراء ترجمتها أو راجع عمل مترجميها كان الراحل دائم الإلحاح على اختيار الكتابات التي تغذي أفكاره النظرية وتدعمها، ففي فترة مبكرة من حياته كباحث ومؤرخ راجع العمل الرئيس للمؤرخ الأميركي بيتر غران عن"الجذور الإسلامية للرأسمالية"صدر بالعربية عام 1992، كما أشرف قبل نحو عشر سنوات على ترجمة عمله المهم"ما بعد المركزية الأوروبية"ففي العمل الأول اتكأ غران على فكرة مركزية في الكتابات التي تبناها عباس ومجايلوه ترى أن مصر كانت تسير بخطى وئيدة على طريق التحول الرأسمالي لولا أن قدوم الغرب مع الحملة الفرنسية قطع عليها هذا الطريق. وفي الكتاب الثاني بلور غران رؤية لتاريخ العالم في إطار مقولات انطونيو غرامشي عن العلاقة بين الأيديولوجيا والتطور الاجتماعي، وتحدى غران في الكتاب مجموعة من الأفكار الشائعة عن"المركزية الأوروبية"في تجلياتها المختلفة سواء كانت ماركسية او ليبيرالية والتي تذهب الى أن تاريخ العالم لا يمكن فهمه إلا على ضوء التطورات التي عاشها الغرب الأوروبي ولما كانت الثقافة مظهراً من مظاهر الهيمنة فإن غران ? كما فعل عباس بعد ذلك ? طرح على المؤرخين ما يحفزهم الى دحض فكرة"المركزية الأوروبية"بحد ذاتها. وربما يكمن في هذا السياق إلحاحه على أهمية التعرف على تجارب النهضة خارج نموذج التبعية وتركيزه على التجربة اليابانية التي خبرها عن قرب، إذ أنه قدم للقراء العرب دراسة مبكرة عن"المجتمع الياباني في عصر مايغي"فضلاً عن عمل آخر يدخل في إطار دراسات التاريخ المقارن عن"التنوير بين مصر واليابان مقارن: بين رفاعة الطهطاوي والياباني فوكوزاوا". وشغلت فكرة الثقافة وعلاقتها بأشكال الهيمنة جانباً كبيراً من عمل عباس في السنوات الأخيرة من خلال تأسيس سيمينار التاريخ العثماني إذ أنه وجه تلاميذه إلى دراسة وثائق المحاكم الشرعية بوصفها مرآة تعكس صور حية من صور التفاعل الاجتماعي التي تنفي الفكرة القائلة بأن ما عاشته المجتمعات العربية في هذا العصر كان عنواناً للركود والتخلف. وفي مقدمته الضافية لعمل المؤرخة نيللي حنا المهم عن" ثقافة الطبقة الوسطى في مصر العثمانية" يدحض الأفكار الاستشراقية المتصلة بالثقافة العربية لافتاً الى وجود" طبقة وسطى" كانت تملك حضوراً يمكّنها من لعب أدوار مميزة في مجتمعها لولا غياب الطابع المؤسسي عنها، متوقفاً في شكل رئيس أمام أثر الثقافة الشفاهية. وربما لهذا كله حظي عباس باحترام كبير من المثقفين الذين احتفوا بأعماله وبمواقفه التي ناهضت مشروعات التسوية السياسية والفساد الجامعي ومختلف الأفكار الداعية الى"التطبيع الأكاديمي"والى احتقار الفكر العربي إذ تصدى في سنواته الأخيرة لترجمة ونقد مؤلفات عدة للمفكر الأميركي برنارد لويس. الأمر الذي دفعه لخوض معارك كثيرة طوال حياته وآخرها معركته مع المؤرخ الأميركي جوئيل بنين حول اليهود المصريين وهي المعركة التي جعلت اسمه ضمن قائمة المصريين المعادين للسامية، وعبّر عباس عن جانب من معاركه بجرأة لافتة في مذكراته التي صدرت عام 2004 تحت عنوان:"مشيناها خطى"عن دار الهلال وأحدثت دوياً هائلاً وصدرت لها نحو 5 طبعات في أقل من عام وفيها إضافة إلى تقديم نص راق من نصوص السيرة الذاتية الكاشف عن مسيرة"مثقف عصامي"يتضمن كشفاً جريئاً عن صور الفساد الجامعي الذي حرص الراحل على مقاومته حتى اللحظات الأخيرة عبر انخراطه في العمل مع مجموعة 9 مارس لاستقلال الجامعة.