اخيراً "فاز الدكتور رؤوف عباس بجائزة الدولة التقديرية" عبارة قالها كل من وصله خبر فوز هذا المؤرخ الجليل بالجائزة الارفع في مصر. وفوز عباس بالجائزة يتوج عملا دؤوباً بدأ قبل اربعين عاما في الدراسات التاريخية واثمر نحو 9 مؤلفات مهمة اضافة الى 7 كتب قام بترجمتها من الانكليزية الى العربية، خلاف ما اشرف على تحريره من كتب ومؤلفات واطروحات اكاديمية لباحثين عرب واجانب. والمتابع للانتاج العلمي للدكتور رؤوف عباس يتوقف امام عدد من العلامات الدالة في مسيرته الشخصية والعلمية فالرجل الذي ولد مع اندلاع الحرب العالمية الثانية 1939 هو ابن جيل من المثقفين المصريين تفتح وعيه مع قيم التحرر الوطني وتشرب الشعارات التي بثتها ثورة تموز يوليو 1952. واللافت هو ان مؤرخنا التحق بالجامعة في ذروة عمليات المقاومة الشعبية ضد العدوان الثلاثي على مصر العام 1956، لذلك ارتبط، شأن معظم ابناء جيله، بقيم الثورة المصرية خصوصا في بعدها الاجتماعي ودفع مع الجيل نفسه ثمن اخفاقها وعجزها عن تحقيق بعض ما وعدت به. وعلى المستوى العلمي جاء ارتباط رؤوف عباس بالدراسات التاريخية المتخصصة داخل الجامعة في فترة انتقالية مهمة كانت المدرسة التاريخية المصرية فيها بدأت تغادر تمسكها القديم بالمدرسة التاريخية الالمانية والمدرسة المثالية والمدرسة الوضعية وعمليات المزج بينهما وتنتقل الى نقطة اخرى فارقة في مسيرتها تمثلت في الالتفات الى الادوات التي اتاحها المنهج المادي للتاريخ في تفسير بعض التحولات الحضارية المهمة في تاريخ البشرية. وشجع على هذا الانتقال بداية تكون جيل جديد من المؤرخين على وعي مختلف عن الوعي الذي ارساه الجيل الرائد الممثل في شفيق غربال وغيره من المؤرخين وهو الجيل الذي ربط التطورات الحضارية للمجتمع المصري بذات الحلقات التي مر بها التاريخ الاوروبي مما جعل هذه التطورات تبدو في سياق تابع ل"المركزية الاوروبية" وهو السياق الذي ظلت تفسيرات حركة التاريخ المصري اسيرة تفسيراته المنهجية لسنوات طويلة. ولا شك في ان هذه الكتابات صنعت مناخاً ثقافياً مغايراً لما ساد في الثلاثينات، وبالتالي اسهم في صوغ وعي الجيل الجديد من المؤرخين وهو "جيل الستينات" الذي ينتمي اليه رؤوف عباس، على رغم انه شخصيا ابدى في اكثر من مناسبة تحفظه على الاستخدام غير المبرر للمنهج المادي في حالات كثيرة. ارتاد عباس طريقا يكاد يكون مجهولا في الدراسات التاريخية المصرية انذاك، وهو مجال "التاريخ الشفاهي" اذ انه نجح في توظيف الروايات الشفاهية للقيادات العمالية والثقافية توظيفاً منهجياً، واستطاع في هذه الدراسة نقض مقولة "لا تاريخ من دون وثائق". الى ذلك فهو صاحب اول دراسة علمية عربية في تاريخ الياباني الحديث وهي الدراسة التي صدرت مطلع الثمانينات تحت عنوان "المجتمع الياباني في عصر ما يجيي" وهي دراسة تكتسب اهميتها الفائقة من اعتمادها على مصادر يابانية ووثائق تعرف علميا باسم "وثائق الدرجة الاولى" وتعكس الجهد الشاق الذي بذله مؤرخنا لكتابة الدراسة التي استغرق اعدادها نحو عشر سنوات، وهي الفترة الزمنية نفسها التي استغرقتها اعداد دراسة اخرى مهمة حول "اوراق هنري كورييل" القيادي البارز في الحركة الشيوعية المصرية وهي دراسة مهمة كشفت أوراق سرية داخل منظمة "حدتو" اكبر المنظمات الشيوعية في مصر. وبخلاف هذا الانتاج المميز تدين الدراسات التاريخية المعاصرة لمؤرخنا بفضل اعادة اكتشافه لدور "جماعة النهضة القومية" وهي جماعة ليبرالية ذات توجه اصلاحي نشطت في مصر قبل 1952 وعملت في توجهها على تفادي الاثار السلبية للازمة الاجتماعية التي تفاقمت قبل 1952 واستفاد من الدراسة التي صدرت 1986 المؤرخ الهولندي رول ماير في كتابه "الفكر السياسي في مصر، 1945- 1958". وفي كل مؤلفاته ابدى رؤوف عباس اهتماما كبيرا بمستجدات الفكر التاريخي وتمثل في ترجماته المهمة لانتاج المؤرخين المتميزين. ولعل هذه الرؤية البانورامية لجهوده العلمية تكشف عن دوره الرائد في تأسيس مدرسة مصرية في التاريخ الاجتماعي وهو الدور الذي يواصله الآن داخل الجامعة ومن خلال "الجمعية المصرية للدراسات التاريخية" التي يرأسها منذ عامين.