ربما لم يهتم المؤرخ المصري يونان لبيب رزق توفي قبل أيام كثيراً بصنعة الكتابة أو روعة السرد أو مهارة الحكي المفعمة بالتشويق على غرار ما فعل مؤرخون عرب آخرون، لكنه كان من الأكاديميين القلائل الذين تمكنوا من القفز خارج سور الجامعة، والتحموا بالناس، مقرباً التاريخ، كعلم له أصوله وقواعده، من القريحة الشعبية، لتتسع رقعة مطالعته بين شرائح ثقافية واجتماعية عدة، لا سيما بعد أن صار حقلاً معرفياً مغرياً لكتاب وباحثين من مجالات مختلفة وقعوا في هوى التاريخ، فأنتجوا فيه كتابات مستفيضة، مثل القاضي طارق البشري، والصحافي والسياسي محمد حسنين هيكل، والكاتب جمال بدوي، والأديب صلاح عيسى. هذه النظرة المفتوحة للتاريخ ودوره تجلت في العمل الكبير الذي تركه رزق في عنوان"الأهرام... ديوان الحياة المعاصرة"، والذي يتخذ من صحيفة"الأهرام"القاهرية العريقة وثيقة اجتماعية وفكرية، يستنبط من بين سطورها التي لا تحصى، تاريخ مصر الحديث والمعاصر، من مختلف الزوايا، سواء ما يتعلق بأشخاص أو بقضايا أو مواقف أو مؤسسات أو عائلات... الخ. وما ساعد رزق في تقريب التاريخ من الناس أنه كان مؤرخاً يتمتع بخصال مشهودة تقربه من مواقع الباحثين الثقاة في الإنسانيات عموماً، والتاريخ خصوصاً، في مطلعها أنه احتفظ طيلة حياته بمسافات متساوية، إلى حد كبير، من التيارات السياسية والفكرية كافة، متمسكاً باستقلالية ملموسة نسبياً، مقارنة بمؤرخين آخرين إما صاروا بوقا للسلطان، أو صوتاً للمعارضة الدائمة، واستفاد رزق في تحصيل هذا الوضع من ليبراليته غير المجروحة، التي جعلته يتسامح مع الجميع، وينبذ التعصب لأي طرف، وينفر من كل من حاول أن يسحبه إلى خندق ضيق، يتمترس فيه ويحكم منه على سير الأمور وتطور الأحداث. وفضلاً عن النزعة الليبرالية تلك فإن رزق استلهم من أكاديميته العريضة"موضوعية"واستقامة علمية لا تخفى على كل ذي عين بصيرة وعقل فهيم، جعلته، هو المسيحي، يرفض تقسيم بعض من هم على ملته، تاريخ مصر إلى حقب على أساس ديني، ويؤمن بأن أيام وزمان المجتمع العريق الذي نشأ على ضفاف النيل العظيم تستدير على أكتاف رقائق حضارية، يتداخل فيها الفرعوني مع القبطي ويرشحان على الإسلامي، وكأنه يؤمن بوصف الباحث الفرنسي إدوارد لين لمصر بأنها"وثيقة من جلد رقيق، الإنجيل مكتوب فيها فوق هيرودت، وفوق ذلك القرآن، وتحت الجميع لا تزال الكتابة القديمة تقرأ بوضوح وجلاء". وما جعل رزق مؤرخاً للجميع أنه أنتج دراسات متنوعة في تاريخ مصر الحديث، تهم قطاعات عريضة من الناس، بعضها يتابع تطور التجربة الحزبية المصرية، قبل ثورة تموز يوليو 1952 وبعدها، وبعضها يتعلق بمذكرات شخصيات وطنية بارزة مثل عبدالرحمن فهمي وفخري عبد النور، وأخرى"تناقش تاريخ حرية الصحافة"، وهناك كتابان عن قضية"طابا"التي كانت آخر بقعة استردتها مصر من إسرائيل بمقتضى اتفاقيات كامب ديفيد، وتوجد دراسات تربط مصر بالسياق العالمي مثل تلك الموسومة بپ"مصر والحرب العالمية الثانية"وأخرى حول قضايا جوهرية تهم العرب أجمعين على غرار كتابه المعنون بپ"قراءات تاريخية على هامش حرب الخليج". فتنوع الدراسات والاستقلالية النسبية والنزعة الليبرالية الجلية والبساطة الآسرة في العرض والتناول، جعلت ما أنتجه رزق تاريخاً للناس، أو تاريخاً للجميع، وجعلته ينضم إلى مؤرخي مصر الكبار مثل عبدالرحمن الرافعي وشفيق غربال وعبد الرحيم مصطفى ومحمد أنيس ورؤوف عباس وعاصم الدسوقي. * كاتب مصري.