"تلكم هي الطريقة التي بها ينتهي العالم. تلكم هي الطريقة التي ينتهي بها العالم. تلكم هي الطريقة التي بها ينتهي العالم. ليس بانفجار مدوٍ، إنما بأنين". بهذه السطور الاربعة يختتم تي. أس. اليوت القصيدة التي تعتبر الأكثر يأساً وكآبة وسوداوية من بين أشعاره كلها، بما فيها"الأرض اليباب". القصيدة هي"الرجال الجوف"التي أصدرها عام 1925، بعد ثلاث سنوات من إصدار"الأرض اليباب"، ما جعل كثراً من النقاد يرون في تلك استكمالاً لهذه. فالحال انه حتى وان كانت جرعة اليأس في"الرجال الجوف"أقوى وارتباط اليأس بجوانية الشاعر وجوانية الرواة أعمق، فإن ما في هذه القصيدة يكاد يكون المرآة الداخلية لپ"الأرض اليباب"ومن هنا تدرس القصيدتان معاً، وتحللان معاً، ودائماً في ارتباط بما كانت عليه أحوال اليوت النفسية خلال تلك الفترة حيث راح يتأرجح بين الشك واليقين، وكذلك أحواله الاجتماعية والأحوال السياسية من حوله. وفي هذا الإطار لم يعدم الأمر نقاداً ودارسين ربطوا، بخاصة، بين"الرجال الجوف"، وبين الأزمة الزوجية التي عاشها حين اكتشف أن زوجته فاليري على علاقة ببرتراند راسل، ناهيك بأن مؤتمر فرساي الذي ختم الحرب العالمية الأولى، أوقع اليوت في وهاد اليأس، إذ رأى فيه تمهيداً لحروب جديدة. كل هذا إذاً كان الى حد ما في خلفية هذه القصيدة. منذ البداية يشعرنا اليوت أن الوجود، في حد ذاته، على هذه الأرض، إنما هو نصف ? موت. وهذا الوجود هو الذي يتطلب نوعاً من التجديد لدى هؤلاء الرجال، أو حتى: الكائنات الحية، الذين لا يوصفون بكونهم"أرواحاً تائهة، عنيفة، بل رجالاً جوفاً... رجالاً ليس في أحشائهم سوى أكوام من القش". غير أن ما لا بد من ملاحظته هنا هو أن هذا الموقف من الرجال الجوف، رجال القش، حتى وإن كان سوداوياً في مساره الوصفي، فإنه في ثناياه يحمل، خفية، نوعاً من التأشير على مرحلة انتقالية، من المؤكد تاريخياً انها هي التي قادت الشاعر الى ولوج حلبة الإيمان كما تجلى لديه في"الرباعيات الأربع". ويقول دارسو اليوت في هذا الصدد بالذات، ان ثمة، من ناحية، في هذه القصيدة، الروحية والصور نفسها التي نجدها في"الأرض اليباب"، مثل"الصلاة الى الحجارة المهشمة"، وپ"النهر المنتفخ... التايمز المحمل بالمازوت والقطران". ولكن في مقابل هذا، من ناحية ثانية، هناك اختفاء ملحوظ، للبيئة العمرانية المدينية التي نجدها مهيمنة في"الأرض اليباب"... لتحل محلها هنا"رؤى سماوية"، تبدو للوهلة الأولى خجولة الحضورة مغبشة، لكنها سرعان ما تتكشف في شكل أكثر وضوحاً، لتضعنا وسط مناخ يبدو، مثل عالم القصيدة ككل، مستقى من عوالم دانتي في"الكوميديا الإلهية"، تلك العوالم التي تبدو هنا بالغة الحضور، بديلة من الحضور السابق للأساطير في قصائد اليوت التي كتبت قبل"الرجال الجوف"ثم بعدها. هنا ليس الأساطير ما يهيمن، بل المرجعيات الأدبية. ولئن كنا ذكرنا دانتي، ونستطرد الى صورة العذراء والقديسين لديه وقد استعيرت بقوة في"الرجال الجوف"، يمكننا أن نذكر أيضاً جوزف كونراد، وشخصية كورتز في روايته"في قلب الظلمات..."وكورتز حاضر في"الرجال الجوف"في شكل مباشر، من خلال عبارة"السيد كورتز مات"، العبارة التي تحيلنا مباشرة الى النهاية المرعبة التي نجدها في الرواية من نصيب هذا البطل الكونرادي، وقد قتلته الحمى وهلوساته، وسط الغابات الكثيفة. إن الرجال الجوف الذين يحدثنا عنهم اليوت في قصيدته، يجدون أنفسهم في حال شبيهة بحال كورتز حين يقترب الموت منهم، أو يقتربون هم منه. وفي هذا الإطار لم يكونوا بعيدين من الصواب أولئك الدارسون، الذين رأوا في قصيدة"الرجال الجوف"مرجعية أساسية يمكن أن يكون صامويل بيكيت، أحد سادة مسرح اللامعقول، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، قد استند اليها في بناء الكثير من شخصيات مسرحياته، ولا سيما في"انتظار غودو"، حيث الكائنات تائهة فارغة، لا تريد شيئاً ولم تعد تنتظر شيئاً. فشخصيات بيكيت تبدو مثل"الرجال الجوف"وحيدة حتى ولو تعددت، يائسة في واد لا يطل على أية نجوم ولا يمكن النعمى الإلهية أن تدنو منه. أسكتهم اليأس وأعماهم بحيث لم يعودوا على ارتباط بأي شيء. وهم إن عبدوا شيئاً، فإنما يكتشفون انهم إنما يعبدون آلهة مزيفة. من الناحية البنيوية، درس نقاد كثر هذه القصيدة انطلاقاً من كونها تقال لنا من وجهات نظر متعددة، خمس على الأرجح، حيث ان كل وجهة نظر تعبر عن مرحلة لعبور الروح الى واحدة من ممالك الموت الخمس، وهذا ما يعطي الشاعر الفرصة، بحسب دارسيه، ليقول لنا كيف اننا، نحن الأحياء، نُرى بعيون"أولئك الذين عبروا وعيونهم شاخصة". والحقيقة أن صورة العين موجودة في طول القصيدة وعرضها، حيث تشكل نوعاً من اللازمة، طالما ان النظرة هي كل ما يبقى بعدما تفقد الحواس الأخرى وظائفيتها، ولئن كنا نحن، أيضاً، عميان في مملكة الوادي الذي لا نجوم تنيره، فإننا نحن في الوقت نفسه، الشيء الذي ترصده عيون العابرين مرة الى"ملكوت حلم الموت"ومرة الى"ملكوت غسق الموت"ومرة الى"ملكوت الموت الآخر...". ولعل في إمكاننا في هذا الإطار أن نعتبر حضور العين بكثرة في القصيدة إشارة تذكر بكيف أن بياتريس كانت هي العين التي قادت الحبيب في"الكوميديا الإلهية"لدانتي. وعبر هذه العيون المتعددة يصف لنا الشاعر هنا كل تلك الصور المجمعة عند ضفة نهر ملوث، وهنا أيضاً يبدو تأثير دانتي واضحاً، ولا سيما الأناشيد التي تصف"اللمبو"، أي الحلقة الأولى والأخف من حلقات الجحيم... والتي تصور لنا عجز الإنسان حتى عن العبور الى ذلك الجحيم، كما عبر تسول التوبة، كي ينجو منه. اننا هنا مرة أخرى أمام صورة العجز التام عن أي فعل. العجز التام عن أية اندفاعة، ما يحيلنا مرة أخرى، الى شخصيات صامويل بيكيت، وشعارها الشهير"لا شيء يحدث... لا أحد يجيء". في شكل عام، يسيطر على"الرجال الجوف"أيضاً، ذلك العبور المتواصل الذي اعتاد اليوت ان يصوره في معظم أشعاره بين العصور القديمة والزمن الحديث. بل يبدو هذا العبور هنا في أحسن أحواله، ولا سيما حين تتوسطه إحالة مقصودة من إليوت، من ناحية الى مسرحية"يوليوس قيصر"لشكسبير، ومن ناحية ثانية الى الصلاة الى الرب، التي تحضر هنا كدعوة الى الخلاص... أو توسل له. عندما كتب توماس ستيرن إليوت 1888-1965 قصيدة"الرجال الجوف"، كان لا يزال في السابعة والثلاثين من عمره، لكنه كان سبق له أن أصدر عدداً لا بأس به من قصائده ومجموعاته الشعرية التي راحت تؤمن له مكانة أساسية في الحياة الثقافية الأميركية ثم الأوروبية، ولا سيما"الأرض اليباب"، ولكن أيضاً"أغنية حب من الفريد بروفروك"وپ"صورة سيدة"ناهيك بمجموعة"قصائد"التي بعدما أصدر طبعة أولى منها عام 1920، عاد وأصدر لاحقاً طبعة جديدة ضم اليها"الرجال الجوف". وكما نعرف، فإن إليوت الأميركي الأصل الذي انتقل الى أوروبا ليعيش فيها ويحمل الجنسية الانكليزية، لم يكن شاعراً فقط، بل كان أيضاً ناشراً، وناقداً كبيراً، إضافة الى كتاباته المسرحية التي اشتهرت أواسط القرن العشرين، وفي معظمها عبّر بأفضل السبل عن أسئلته وقلق إيمانه، الذي نقله الى اعتناق الكاثوليكية، ثم التعبير عن عمق اعتناقه هذا في معظم أعماله اللاحقة، ومن أشهر مسرحيات إليوت"مقتلة في الكاتدرائية"1935 وپ"حفل الكوكتيل"1949 وپ"رجل الدولة العجوز"1958. [email protected]