الإقبال العربي على ترجمة "الأرض الخراب" للشاعر ت.س.إليوت يفسح المجال امام مقارنة بين الصيغ المختلفة التي يرتأيها المترجمون العرب. والقصيدة هذه كان لها اثر كبير في بعض نواحي الثورة الشعرية العربية الحديثة. هنا قراءة. ليس في إمكان الشعر العربي الحديث والمعاصر، وحتى الشعر العالمي المكتوب بعد 1922، ان يتلافى اثر قصيدة ظهرت في العام المذكور، بعنوان "الأرض اليباب" أو "الأرض الخراب"، للشاعر ت.س. إليوت وقد أهداها الى عزرا باوند الذي سمّاه "الصانع الأمهر"، بعد مقدمة صغيرة هي: "رأيت مرة بأم عيني "سيبل" في "كيومي" عالقةً في قفص، وكلما صاح بها الأولاد: "ماذا تشتهين يا سيبل؟" ردّت: "أريد الموت". والقصيدة اكبر وأشمل قصيدة شاملة ومركّبة ظهرت في القرن العشرين، وهي ذات مناخات سردية يومية وأسطورية معاً، وذات استعمالات وإحالات ثقافية ومعرفية واسعة، تمتد من سفر حزقيال وسفر الجامعة، وعظة النار البوذية المساوية في الأهمية للوعظة على الجبل، ومجموعة من الأساطير والطقوس القديمة بالهندية واليونانية واللاتينية... مروراً بالجحيم لدانتي، وصولاً الى كتاب "جيسي ل وستن" حول الكأس المقدسة "من الشعائر الى الرومانسية كمبردج" وكتاب "الغصن الذهبي" لجيمس فريزر فضلاً عن بودلير وفرلين وجيرار دي نيرفال. لا ننسى أيضاً مرجعيات فلسفية مثل "نظرة الى الفوضى" للألماني هارمن هسه. وهذه الإشارات الثقافية بين ما هو أسطوري رمزي وفلسفي، وديني وشعري، محشورة بكاملها في متون القصيدة وملاحقها، حيث ان إليوت شكل منها ما يشبه دليلاً للقارئ المتوغل في ما يشبه غابة من الأسماء والإشارات واللغات... فالقصيدة قصيدة حفريات معرفية وأصوات وإشارات... ولا بد للقارئ فيها من دليل بالإحالات الكثيرة. تشكل "الأرض الخراب" مناخاً شعرياً، يتغلغل في التفاصيل الكثيرة، ويطفو فوقها ايضاً كإشارات تلوح لمراكب تغرق. ومثلما هي تطلع من إرث قريب للعالم هو خرائب الحرب العالمية الأولى، وإرث بعيد لا قابع في الأساطير والحكايات والأشعار السوداء، كذلك فإنها تتجه الى المستقبل حاملة راية الخراب ايضاً. سيكون من اللافت للانتباه، على سبيل المثال، ان يقول الشاعر، في الأدبيات من 373 الى 376: "البروج تتهاوى/ القوس اثيناالاسكندرية/ فيينا لندن/ باطلة". وكان ينقصه ان يقول "نيويورك لتصح رؤياه بالكامل، وكأنه نوستراداموس شعري... نيويورك الحادي عشر من ايلول سبتمبر 2001. وت.س. إليوت، كان، مع عدد من شعراء آخرين فرنسيين وأميركيين وإنكليز، من محفّزات وروافد الحداثة الشعرية العربية... هذه الحداثة التي اغتنت بمثاقفتها الفرنسية والإنكليزية في شكل خاص، وبسائر الثقافات العالمية، لتقف بعد ذلك في مصاف الشعر العالمي. إنه، خلال القرن العشرين، وللمرة الأولى في تاريخ الشعر في العالم، يكتسب شعر كل لغة من اللغات، نكهة عالمية من خلال هذا التواصل بالترجمة او الانفتاح المباشر لكل لغة على سائر اللغات الحية. إن انغلاق كل لغة على ذاتها، يفقرها، ويفقر شعريتها على الأرجح، حتى ولو كان الشعر هو الأكثر التصاقاً بالخصوصيات الموسيقية والتركيبية والتاريخية للغته.... لأن ذلك جميعاً قابل للتطور من خلال التواصل. بالعودة للأرض الخراب أو اليباب لإليوت، فقد ظهرت ترجمات كثيرة لها للعربية، ابتداء من ادونيس ويوسف الخال وانتهاء بمحمد عبدالسلام منصور. وبين هذين الحدين من الاهتمام بإليوت والقصيدة، تبرز محطتان شديدتا الأهمية للدارس، هما عبدالواحد لؤلؤة وماهر شفيق فريد. فالدكتور لؤلؤة، وهو استاذ اكاديمي ومتخصص بالأدب باللغة الإنكليزية، كتب كتاباً قيّماً عن الشاعر والقصيدة، قام فيه بعمل نقدي دقيق لكل من قام بترجمة "الأرض الخراب" للعربية، قبل صدور كتابه... وانتقد بجدّية، في الغالب، وبسخرية احياناً، بعض من قاموا بترجمات يعوزها المعرفة بالإنكليزية... حتى ولو لم يعوزها الشعر كترجمة البيت 428 من القصيدة المقطع الرابع: ما قاله الرعد وهو: Quando fiaur uti chelidon-o swallow, swallow "ابلع ابلع" في حين ان Swallow هنا "سنونو" وترجمة السطر الذي يتكلم عن الشاب "المدبب الوجه" ب"الأشقر الجميل". وقد قام لؤلؤة بدوره، بعد دراسته النقدية المستفيضة للترجمات، بنقل القصيدة للعربية. وترجمته بالتأكيد، أدقّ من ترجمة كل من ادونيس والخال، وإن تكون ترجمتهما اجمل وأكثر شعرية. اما الدكتور ماهر شفيق فريد، فقد قام بترجمة الأعمال الشعرية الكاملة لإليوت، باستثناء ديوان "القطط العملية"، مع تقديم وهوامش، وصدر كتابه القيّم عن دار مطابع المستقبل بالفجالة والإسكندرية ومكتبة المعارف بيروت، بطبعته الأولى العام 1996 والدكتور فريد، بدوره، استاذ جامعي متخصص بالأدب باللغة الإنكلبزية، ومتمكن من العربية، وصاحب مزاج شعري وبعض التجارب الشعرية، كما يظهر من ترجمته ومقدمتها. وعلى غزارة وتنوع مراجع الدكتور فريد، فقد لاحظت خلوّها من كتاب الدكتور لؤلؤة، ولست ادري اذا كان قد اطلع عليه، وأهمله، أم انه لم يطلع عليه، على رغم شهرته وأهميته، ولعل في نقد الدكتور لؤلؤة لترجمة سابقة ل"الأرض اليباب" للدكتور فريد، ضلعاً في هذا الإهمال... على رغم ان الدكتور ماهر شفيق فريد لا يلحقه في مقدمته لعمله، استكبار العلماء، بل يلحقه، كما سبقت الإشارة، تواضعهم، واعترافه، بلفتة جديرة بالاحترام، بعدد من الأخطاء كان قد ارتكبها في ترجماته الأولى، في ايام الشباب، لقصائد إليوت. ولعل الدكتور لؤلؤة استند الى ترجمات الصبا هذه في نقده. وهو يعترف بكثرة الأخطاء التي وقع فيها في ترجمته ل"الأرض الخراب" و"الرجال الجوف" و"أربع رباعيات"، وكان ذلك بتحميس له من استاذه الدكتور محمد العناني... ونشرها في حينه في مجلة "أدب" القاهرية... ويبرر هذه الترجمات المغلوطة ب"جهل الشباب وغروره". ماهر شفيق فريد، بالنسبة الى إليوت، اكثر من مترجم. هو عاشق متيّم له، بل لعله تحوّل مع الأيام وشدة التعلق الى ما يمكن تسميته مسألة شخصية حميمة له، فقد خلب إليوت لبّه خلباً عظيماً. يقرأ له "الأرض الخراب" "مذهولاً" كما يقول: "أفكار غريبة، اقتباسات لا حصر لها، صور شعرية ليس لإيحائها مثيل، قوافٍ لها رنين الدنانير الذهبية على رخام مصقول، موسيقى خفية... تسري في تضاعيف السطور، ألوان زاهية وأخرى قاتمة... الخ. ولذا قام بترجمته خمس مرات على التوالي من بينها احدى الطرق على التفعيلة، وقام بعمليات كولاّج على اشعاره، وترجمه بالعامية المصرية... الخ. اننا نرى، بالنتيجة، ان إليوت شاعر صعب وجذّاب. هو متردد، ساخر، ملتف على ذاته كأدغال، وكتاباته مفعمة بالأسماء والإشارات الثقافية والحضارية والميثولوجية، وهوامش قصائده تكاد توازي ثلث القصائد، وإليوت يظهر احياناً سردياً يومياً، وأحياناً متأملاً ومتفلسفاً، وهو عميق قديم حديث يومي مستقبلي. وشاعر ترجيعات غنائية وصوتية وموسيقية وشاعر وجداني ونشيج، وشاعر قسوة وتحولات الفرد والجماعة وعناصر الطبيعة: النار، الماء، الرعد... البحار، الصخور... الخ وهو صاحب سخرية مرة ومهزئ لحضارة الغرب الأميركية وكاشف للخراب الذي ينخرها... كأنها جسد من قش والرجال جوف. وقصائده غير مؤكدة، بل رجراجة رهيبة ولولبية مرتدة على ذاتها فكثيراً ما يردد ان النهاية هي البداية والموت هو الحياة والملك خادم - يقول مثلاً: I can connect nothing with nothing أي "أستطيع وصل اللاشيء باللاشيء" ويقول: when i count there are only you and together but when i look ahead up the white road there is always another one walking beside you وترجمتها بقلم محمد عبدالسلام منصور: - من هو الثالث ذاك الذي دائماً سائر بجوارك؟ حين اعد، هناك فقط انا ثم أنتَ معاً لكنني حين انظر عبر مدى النهج الأبيض يوجد آخر دوماً يسير جوارك. ووصولاً الى محمد عبدالسلام منصور، الشاعر اليمني المعاصر، نجد انه قام بترجمة "الأرض اليباب" العام 2001، وصدرت الترجمة عن دار الحكايات، بيروت. وهو يقوم بترجمة القصائد والحواشي الإليوتية، من دون مقدمات او سيرة للترجمة كما فعل الدكتور ماهر شفيق فريد... بل هي ترجمة عارية إذا صحت العبارة، قام بها منصور، مثبتاً، بالتقابل، أبيات إليوت، وترجمتها بيتاً بيتاً، بالتسلسل فأنت تستطيع ان تقرأ كل بيت من القصيدة، بالإنكليزية، ومقابله مباشرة الترجمة العربية. والملاحظة الأولى على الترجمة هي ان منصور قام بهذا العمل بصيغة تستند الى ايقاع خفيف على العموم، على تفعيلة هي بين فعلن، فعولن، مفاعلن... منتقلاً بين هذه وتلك، بهدوء. وقد اهمل المترجم توحيد القوافي أو مزاوجتها... بل جاءت ميسّرة منسرحة. هو إذاً بثّ في جسد القصيدة، أوزاناً خفيفة غير ضاغطة ولا بلاغية... مثل April is the errullest month, breeding حيث ترجمه: "أقسى شهر نيسانُ، مخاض...". وثمة ترجمة سابقة لذلك هي "نيسان أقسى الشهور"... والسؤال الإشكالي الأول هو الآتي: هل الإيقاع المنتظم بالتفعيلة، يخدم الترجمة ام يخفف من جماليتها أو من أصليتها؟ في الكثير من الأحيان، لا نشعر بعبء الإيقاع، بسبب براعة الشاعر في إخفائه. فهو يقول الأسطر من 385 الى 388 "في هذا الجحر المتعفّن وسط الأجبال على ضوء القمر الخابي يتغنّى العشبُ فوق الأجداث الملقاة جوار المعبدِ حيث المعبد خاوٍ، تسكنه الريح فحسبُ... وينجح في الجمل القصيرة من 266 الى 271. "- يعرق النهر / زيتاً وقاراً / والبوارج تجري / مع رجعة المدّ / أشرعة حمر / عريضات...". أو كقوله: البيتان 41، 42: "أحدّق في مهجة الضوء، الصمت والبحر خالٍ مخيف". لكنه يقع في مواقع كثيرة، في مأزق ليّ عنق الأبيات، لتدخل في جسد الوزن... في حين هي منسرحة وحرّة. كالصيغة الآتية: البيت 136: And if it rains, a closed ear at four "وإذا ما هي ماطرة في الرابعة، فمركبة مقفلة". أو كقوله: البيت 120 noting again nothing "لا شيء ثانية ليس شيء". فهناك تعب في "ليس شيء". أو كترجمته للبيت 165 Hurry on please its time "السرعة فضلاً حان الوقت"، وهي ترجمة ضعيفة كما هو ملاحظ. أو كترجمته للبيت 181 Departed, have left no adresses "غادروا دونما يتركون عناوين". وهي ضعيفة لاضطراره لاستخدام تفعيلة "فاعلن"، فجاءت "دونما يتركون...". والحال ان إليوت سردي نثري في كثير من الأحيان، وإنشادي في بعض المقاطع. وإنّ السردية النثرية اسلم للمترجم في الحال الأولى، وقليل من الوزن حسن في سائر الأحوال، بشرط الحفاظ على المدّ السردي العارم لإليوت. وسنقدّم في النهاية، على سبيل المقارنة، ترجمتين لأبيات واحدة، قام بهما على التوالي كل من الدكتور ماهر شفيق فريد ومحمد عبدالسلام منصور، من مقطع "ما قاله الرعد" wat the thunder said مبتدئين على التوالي، بالدكتور فريد، ومن ثم الشاعر منصور: 322 - after the torch light red on sweaty faces "بعد احمرار ضوء المشعل على الوجوه التي ترفضُّ عرقاً" "بعد التماع المشاعل محمّرة في الوجوه الرواشح" 323 - After the frosty silence in the gardens "بعد صقيع الصمت في الحدائق" "بعد الصُموت الصقيعي وسط البساتين" 324 - After the agony in stony places "بعد العذاب في البقاع الحجرية" "بعد المعاناة في المكن الحجرية" 325 - the souting and the crying "الصياح والبكاء" "الصياح ثمّ النحيب" 326- prison and palace and reverberation "السجن والقصر ورجع" "سجن وقصر ثم صدى"... 327 - of thunder of spring over distant mountains "رعد الربيع فوق الجبال القاصية" "لرعد الربيع فوق الجبال البعيدة"... الخ. مريم السعد: "إليوت وأنماط الزمن" "أنماط الزمن لدى ت. س. إليوت في الرباعيات" كتاب صدر حديثاً للشاعرة مريم قاسم السعد عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت - عمّان. نقل الكتاب الى العربية فريد الخطيب ورياض القاسم. ومن عناوين الكتاب: نظرة تجريدية، محدودية الزمن، زمن الساعة، الزمن النفسي، الزمن التاريخي، الزمن العظيم، نماذج الزمن وصوفية إليوت. وجاء في تقديمها الكتاب: "ما زال شبح ت. س. إليوت يسيطر على الاعمال الشعرية والأدبية في العالم، على رغم ان وجوده العملاق الدائم يمر بدورات من ازدياد "شعبيته" فخفضها وارتفاعها مجدداً في موطني لغته الأم، الولاياتالمتحدة وبريطانيا. ومما لا شك فيه ان مدى تأثيره هذا يعود الى نجاحه في ترجمة التجربة الانسانية بأكملها وشمولها الى الشعر. وعلى رغم اعتماده على تجربة المرء الخاصة فإنه يجعل الانسان ماثلاً بأكمله امام القارئ، إذ ان دخول إليوت في تفاصيل تكوين بيئة القصيدة، او وصف ناحية معينة من التجربة الانسانية، في مكان معين او في زمن معين، لا يعتمد على عزل ناحية ما من حياة الانسان او من التجربة الانسانية بغية إبراز وجهة نظر معينة. وفي قصائده عموماً وفي صور الحضارة الاوروبية التي يثيرها شعره خصوصاً، ومن خلالها الحضارة الانسانية التي تبدو ماثلة بتمامها في كل الاوقات، ينتقل إليوت من لغة الى اخرى بين الكلمات ومن صورة الى أخرى بين الازمان، بالبساطة ذاتها وبالطريقة المباشرة ذاتها".