يتعقب الشعر الحياة في الأشياء، التي لا يراها إلا قلة ممن يتيح لهم استعدادهم التأملي والنفسي واللغوي أن يروها. ويحيل الشاعر ما لا وجود له إلى وجود، مثلما يحيل النص الشعري القارئ إلى واقع كامن في روح الأشياء لم يره من قبل، فتتغير بعد التلقي صورة المرئي، مثلها في ذلك مثل وعي الرائي. يرتبط أي نص شعري بنصوص أُخَر، ويتطلب مشاركة فاعلة من قارئ ماهر قادر على تأويله. هنا يكمن جزء من القيود التي يضعها المُعْطَى النوعي للدلالة الذي يتحكم في التَّوليد الإيقاعي والوصفيِّ للنص الشعري. تلك القيود التي يحارب من أجل استدامة شروط فعاليتها الأدب الوسطي. وهذا ما يفسر الدافع من وراء ما يجعل الحس الأدبي الرسمي مهتماً بأن يخصَّ عددًا معينًا من بين كل هذه النصوص الشعرية المتاحة له بالتكريس، فتبدأَ في الاشتغال بصفتها"أدباً رفيعاً"، ثم يتم استهلاكها - بعد هذا التكريس - داخل المؤسسة الجامعية التي بدأت مثل عقود، في التماهي مع المؤسسة الأدبية الرسمية، والتماثل مع الذوق الأدبي السائد! الأمر الذي منح عدداً من الأعمال الأدبية في جامعاتنا ? على رغم تهافتها - سمة الحضور والمشروعية، من خلال إدراجها في مقررات التدريس، والبحث الأكاديمي. وهذا ما قد يفسر ? جزئياً - استمرار الأشكال الأدبية التاريخية، وحضورها القوي في واقعنا الأدبي المعاصر. وساهمت عوامل، وسط هذا الحضور القوي لسلطة النوع، في تفكيك سلطة الأنواع التاريخية. وأشير في هذا السياق إلى الاتساع الهائل لشعبية الممارسة الأدبية اللصيقة بالنشر الإلكتروني - في عصر الشبكات - وذلك بسبب الزوال التدريجي لاحتكار الإنتاج الثقافي والأدبي، ممن كانوا يسمون بالخاصة الثقافية. هذا الزوال الذي يرجع إلى تطور الوسائط البصرية من جهة، وشيوع استخدامها القوي من جهة أخرى، على نحو غيَّرَ شروطَ التبادل الأدبي للسلعة الثقافية، وأدى إلى ايجاد شروط مشروعية جديدة، من أجل تواصل إنساني أعمّ، لا يخضع لشروط الإنتاج القديمة، ولا ينتمي إلى الكتابة الأدبية التقليدية، وإلى شروطها النوعية المعتادة. وهو تحدٍّ جديد يواجه النقد المدرسي، حارس الحدود التقليدية للأنواع الأدبية والفنية. لقد أدى قبول عددٍ كبير من المتلقين - في وسائط النشر الإلكتروني المختلفة - بالحدِّ الأدنى من"كفاءة"المنتج الأدبي، إلى نزع مشروعية هذا الاحتكار، فأصبحت الممارسة الأدبية أكثر شعبية، وتناقصت عراقيلُ المشاركة الجماهيرية الواسعة في تداول الأدبيات على مستويي الإنتاج والاستهلاك، تلكم العراقيل التي كانت سبباً في منح شكل من أشكال الشرعية والهيمنة لحاملي شروط إنتاجية ساهموا في منع الكثير من الأدبيات - غير الخاضعة لسلطة المجال اللغوية والشكلية - من التداول لمصلحة استمرار تداول آخر"تتحكم فيه ثنائيات من قبيل: هواة/ محترفين، متلقين/ نقاد.. من خلال إنتاج أدبي خاضع لسلطة المجال التاريخية والنوعية، استثماراً لرأسمال رمزيّ يتم"تسليعه"مادياً في مستويات، وتوظيفه معنوياً واجتماعياً في مستويات أخر. يجذب هذا التحليل انتباهنا إلى الجانب الاجتماعي والسياسي الخاص بالمنفعة المرتبطة بالحفاظ على تخوم النظام النوعي، والرمزي القائم، في المجال الأدبي، فالمواقع المختلفة في داخل الحيز المتراتب لمجال الإنتاج الأدبي، تناظر أذواقًا متراتبة اجتماعيًّا، بحيث"يؤدي كل تحويل في بنية مجال، إلى نُقلةٍ في بنية الأذواق، أي في نطاق الفوارق الرمزية بين الجماعات"ويذهب إلى ذلك المفكر الفرنسي بيار بورديو. أما النص الشعري الجديد فيطرح سؤالاً حول الأدب نفسه"حول الكتابة واللغة، وشرعية بقاء النوع الشعري بسماته التاريخية المتوارثة، ويدفعنا إلى إعادة تقويم تراثنا الأدبي، ونزع صفة القداسة عنه، فالقديم ليس بالضرورة أصيلاً! هذا ما يشير إليه ابن قتيبة في قوله:"إني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدّم قائلُه، ويضعه في متخيَّرِه ... [أما الجديد] فلا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه، أو أنه رأى قائله"! ويشير إلى الأمر ذاته تأويلي الضال لعبارة القاضي الجُرجاني حين قال"لولا أن أهل الجاهلية جدّوا بالتقدم، واعتقد الناس فيهم أنهم القدوة والأعلام والحجة، لوجدت كثيراً من أشعارهم معيبة مسترذلة، ومردودة منفية، لكن هذا الظن الجميل، والاعتقاد الحسن، ستر عليهم، ونفى الظنة عنهم، فذهبتِ الخواطر في الذود عنهم كل مذهب، وقامتْ في الاحتجاج لهم كل مقام". من الخطأ أن نحسب أن ماهية الشعر، محصورة في تجلياته التاريخية فحسب، فالشعر ليس هو أصل الشعر، وذلك لأنه يمثِّل بين الأنواع الأدبية جميعاً، هذا التوتر الدائم والحاد، بين ما هو اجتماعي واللغة، فالشعر يحمل معنى يجاوز المعنى دائماً. لا ينبض الشعر من دون حضور واع لشاعره، ولا يخفق إلا عبر عمل دؤوب من صانع ماهر، وعقلٍ متأهب، نشط حيناً، وكسول في أحيان، فقد يولد النص الشعري مصادفة، ولكنه لا يأخذ شخصيته، ولا يكتسب هويته، ولا تُبثّ الروحُ فيه مصادفة. الشاعر عقل كبير يصطاد دهشته مما تبوح به الروح. قد نجد نقاداً لا يفهمون الشعر، ولكننا لا نجد شعراء لا يفهمون الشعر، النصّ الشعري، نوع من التطرف في علاقة الكلمات بأشيائها"هذا ما يراه هارولد بلوم في"انغماس يراوننغ في الغرائبية، وإدمان ييتس على التوحش، وفي أعمال ووردزورث، وكيتس". وهذا ما يطرح على النص الشعري دائمًا سؤال التجديد، وهو سؤال تحمل الإجابة عليه الآن التجليات القوية لقصيدة النثر العربية المعاصرة، التي أصبح حضورها قوياً في مشهد الشعر العربي الحديث، كمّاً وكيفاً، ولكنها ستمثل - في النهاية - مرحلة تاريخية أخرى من مراحل تطور شعرنا العربي، سيتم تجاوزها، على نحو أكيد، إلى مرحلة جديدة. * شاعر وناقد مصري