ليست الطبقة الوسطى مجرد طبقة يتمتع المنتمي إليها بدخل سنوي يؤهله امتلاك بيت وسيارة ورصيد في البنك وقضاء إجازات سياحية وإرسال أبنائه أو أحدهم إلى جامعات النخبة، كما هو متعارف في بلد مثل ألمانيا، حيث شكّلت هذه الطبقة عبر التاريخ، العمود الفقري أو القاطرة الرئيسة لأية نهضة اقتصادية واجتماعية مستدامة. ولا عجب، طالما تضم في صفوفها مبدعين من مهندسين ومخترعين وفنانين ومحامين وأطباء إلى رجال أعمال بشركاتهم ومؤسساتهم الصغيرة والمتوسطة. وتشغّل أو توظف غالبية قوة العمل، إضافة إلى أنها تشكل المصدر الأساس لواردات الدولة من خلال ضرائب تدفعها. ففي بلد مثل ألمانيا يعمل 70 في المئة من أصحاب الوظائف في المؤسسات والشركات، وتشكلّ الضرائب التي تدفعها الطبقة الوسطى، أكثر من ثلثي الإيرادات الضريبية. أهمية الطبقة الوسطى أنها شكلت دافعاً للحرص والمطالبة الدائمة بالحفاظ على موقعها في الدول الصناعية، ودعم تشكّلها في الدول النامية ومنها الدول العربية. وفي وقت تنعم الدول الغنية باستقرار اقتصادي واجتماعي في ظل هذا الواقع، لا تزال دول نامية، تتقدّمها دول عربية، تفتقد هذه الطبقة ودورها ولو في شكل يختلف من دولة إلى أخرى. لكنّ الوضع بدأ يتغير منذ أوائل تسعينات القرن الماضي، فلم يعد الخوف مقتصراً على الفشل في تكوين طبقات وسطى في الدول العربية والنامية الأخرى، بل انتقل إلى دول غرب أوروبا الصناعية التي شهدت تراجعا مريعاً في دور هذه الطبقة، خلال السنوات الخمس عشرة الماضية. ففي ألمانيا التي كانت تعد نموذجاً لمجتمع يعتمد في ازدهاره ورخائه عليها، تقلّص المنتمون إليها 30 في المئة. ونتيجة لذلك تراجعت نسبة الألمان المصنفين في عدادها إلى 54 في المئة في 2006 مقارنة بنحو الثلثين أوائل تسعينات القرن الماضي كما ورد في دراسة لمؤسسة"ماكنسي"الاستشارية العالمية. وجاء هذا التراجع لصالح زيادة الفقراء، لاسيما الذين يعتمدون على إعانات الدولة لتغطية تكاليف حياتهم اليومية، في وقت أصبح الأغنياء أكثر غنىً، ما دفع جهاتٍ رسمية وغير رسمية إلى دق ناقوس الخطر، واتخاذ إجراءات عاجلة على أساس أن استمرار منحى التراجع يهدد الاستقرار الاجتماعي ومعه السياسي والاقتصادي. ومن بين الإجراءات، فرضُ نسبٍ ضريبية وتأمينات اجتماعية أدنى، على أصحاب الدخول الصغيرة والمتوسطة بدلاً من تخفيض الضرائب على أصحاب الملايين. وتذهب المطالبُ إلى الحد من تأثير العولمة، وإعادة النظر في إطلاق عملية الخصخصة، والتوقف عن إلغاء القوانين التي تضمن حقوق العمال، استجابةً إلى رغبة الليبراليين الجدد. أما في العالم العربي فظهرت، خلال ثمانينات وأوائل تسعينات القرن الماضي، بوادر تبشر بتشكّل طبقات وسطى في دول كمصر والأردن والمغرب وتونس. وفي ضوء صعود فئاتها الملموس في قطاعات اقتصادية عديدة، جرى الحديث عما يبشر بنهضة اقتصادية واجتماعية تعتمد عليها، وعن ترجيح حدوث تغيِّرات سياسية ليبرالية تواكب تكوينها. غير أن هذا الصعود تباطأ خلال السنوات العشر الماضية بعدما عملت هذه الفئات، على احتكار أسواق في شكل يصعب اختراقها من قبل فئات مبدعة جديدة ومجددة. وفي هذا الإطار يلعب تحالفها مع صنّاع القرار السياسي الدور الحاسم في منع هذا الاختراق. وفي وقتٍ تُصاب الطبقات الوسطى في غرب أوروبا والعالم العربي بالانتكاس، تشهد هذه الطبقات انتعاشاً في الصين والهند ودول آسيوية في مقدمتها فيتنام وماليزيا. ولا يتحقق هذا الانتعاش في ضوء تفوق هذه الدول في مجال المنافسة فقط، وإنما بفعل سياسات اقتصادية تشجع روح المبادرة والإبداع، وتحرص على منافسة ترتكز على تكافؤ فرصٍ أكثر عدالة منها في دولٍ أخرى. كما تحرص على إعادة توزيع الدخول بطريقةٍ أقل إجحافاً بالطبقات المتوسطة. وفي ضوء ذلك تمكنت الدول المذكورة من إعادة توزيع حصتها، من ثمار العولمة، على قاعدة عريضة من الفئات الاجتماعية. أما حصة دول غرب أوروبا فجاءت لمصلحة الفئات الثرية التي ازداد ثراؤها وطمعها بمزيد من المال والاستغلال. وفي الدول العربية النفطية أتت ثمار العولمة لمصلحة الدولة عبر الارتفاع السريع في أسعار المواد الأولية وفي مقدمتها النفط الخام. هذا الارتفاع وفّر معه سيولة ووفرة مالية لم تتمتع بها هذه الدول من قبل. ما ساعد على إطلاق مشاريع ساعدت على رفع معدلات النمو بنسب جيدة. وطالت الكثير من هذه المشاريع، دولاً عربية غير نفطية في شكل جنّب غالبيتها ركوداً اقتصادياً محتملاً. ويمكن لهذه المشاريع أن تنجح في دعم تكوين طبقات وسطى لدى اتباع سياسات اقتصادية تساعد المبدعين في الأعمال. * إعلامي وخبير اقتصادي - برلين