في المجتمع الرأسمالي، مثلما في جميع الثورات البورجوازية الأوروبية وتجربة الثورتين الروسيتين، وكذلك الأمر للتجربة السياسية لكل التاريخ المعاصر لجميع بلدان العالم الثالث، لعبت القوى الطبقية الوسطى البرجوازية الصغيرة دوراً مهماً، سواء في تطور الرأسمالية، بصرف النظر عن ميزان هذا التطور وخصائصه المتباينة جذرياً في بلدان العالم الثالث عن المركز الرأسمالي الأوروبي - الأميركي، أو في مجال الحياة السياسية. فما هو تعريف الطبقة الوسطى؟ يؤكد لنا التحليل العلمي - انطلاقاً من دراسة الرأسمالية - معرفة قوانين تطورها، في كل مرحلة تاريخية يمر بها تطور المجتمع الرأسمالي، والكولونيالي، سواء بسواء، وانطلاقاً من قاعدة الاختلاف في بنية علاقات الانتاج السائدة في بلدان العالم الثالث المتميزة بفروقات مهمة عن الغرب الرأسمالي - يؤكد ان تعريف الطبقة الوسطى ليس تعريفاً واحداً، في المجتمعات الرأسمالية الغربية وفي مجتمعات العالم الثالث، ومن ضمنها المجتمع العربي. وهو تعريف فضفاض وهلامي نظراً لافتقاده الدقة العلمية. من المعروف أن الطبقة الوسطى تشكلت تاريخياً في طور سابق لنشوء الرأسمالية، واحتلت موقعاً طبقياً متحدداً بين طبقة النبلاء وطبقة الفلاحين. وفضلاً عن ذلك، فالطبقة الوسطى طبقة محددة ارتبط تاريخها بانبثاق نظام الانتاج السلعي الحر، وبعملية التراكم البدائي للرأسمال. ومن هذا المنظار، فهي طبقة تشكلت تاريخياً في رحم المجتمع الاقطاعي عينه، بما أنها كانت تمثل القوى المنتجة الثورية في اطار علاقات الانتاج الاقطاعية نفسها. وأخذ مفهوم الطبقة الوسطى مدلولات سياسية واقتصادية واجتماعية جمة على أساس أن الطبقة الوسطى تشكل الغالبية الساحقة لمعظم مجتمعات دول العالم المتقدمة منها أو النامية، ولما عرفت به من دينامية وطموح وامتلاكها لإمكانات وقدرات متعددة، وساهمت بصورة واضحة في عمليات التغيير والتطوير في الكثير من المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتقنية حتى وصفها الباحثون بأهم العلامات الايجابية للتطور والنمو. أما في ما يتعلق بالواقع العربي: علينا أن نرى الاختلاف الجذري الأساس في التكون التاريخي لمختلف شرائح الطبقة الوسطى. فالمجتمع العربي شأنه شأن كل مجتمعات بلدان العالم الثالث، يتميز بتعدد الأنماط الانتاجية فيه."ومزايا أنماط العالم الثالث مرتبطة مع سمة مميزة أخرى وهي - تمازج وتناسب بعض الأنماط والوزن النوعي لكل منها، وحتى عدد هذه الأنماط ايضاً، والذي أي التمازج لم يكن مألوفاً لتاريخ دول الغرب المستقلة". لقد عبر مورو برجر بوضوح عن الأهمية التاريخية لنشوء الطبقة المتوسطة الحديثة، التي تقوم بأعباء التحديث والنهضة الوطنية في"مصر الثورة"، في مؤلفه"البيروقراطية والمجتمع في مصر المعاصرة"، إذ جاء في ختام هذا المؤلف الصياغة التالية لمقولته:"وكثيراً ما يقال إن النظام العسكري القائم يحاول تمثيل الطبقة المتوسطة التقليدية من موظفي الحكومة وأرباب الأعمال الحرة وصغار التجار. وانما الحقيقة تكمن في أن النظام العسكري يحاول أن يكون ممثلاً للطبقة المتوسطة الحديثة، التي ما زالت في طور التكوين، والتي تقع على عاتقها مهمات تكنولوجية وإدارية وريادية في مجال تحفيز الاستثمارات. وعلى وجه التحديد، فإن النظام العسكري يحاول خلق طبقة جديدة ليمثلها". وضمن هذا الاطار، طرح بعض اساتذة العلوم السياسية في الغرب، مثل مانفرد هولبرن، وجيمس بل، مقولة"الطبقة المتوسطة الجديدية"، لكي تقتصر على الفئات التكنوقراطية والمهنية والبيروقراطية المدنية والعسكرية العليا، والتي أصبحت في نظرهم محور السلطة الاقتصادية والسياسية ورمز الجاه الاجتماعي والإداري في بلدان الشرق الأوسط". وهكذا، فإن الطبقة الوسطى تضم مختلف الشرائح الاجتماعية التي تعيش بشكل أساسي على المرتبات المكتسبة في الحكومة والقطاع العام، وفي قطاع الخدمات والمهن الحرة الخاصة. كما يمتلك بعض من شرائح هذه الطبقة وسائل الانتاج مثل العقارات أو الأراضي الزراعية، أو أسهم بعض الشركات. ويمكن تقسيم هذه الطبقة الوسطى الى ثلاث شرائح تضم كل شريحة فئات متجانسة بقدر الإمكان. الشريحة العليا من الطبقة الوسطى، وتضم العلماء والباحثين وأساتذة الجامعات والمعاهد العليا والمديرين وأصحاب المهن المتميزة كالأطباء والمهندسين والقضاة والمحامين والفنانين وكبار ضباط الجيش والمخابرات والفنيين العاملين في قطاع المعلوماتية، والمديرين العامين في القطاع العام. وعلى رغم ان هذه الشريحة العليا ليست مالكة لوسائل الانتاج وغير ذلك من الأصول الرأسمالية، إلا أن افراد هذه الشريحة القابعين على القمم المسيطرة على القرارات الاقتصادية وأنماط التحكم في الفائض الاقتصادي، خصوصاً في القطاع العام، راكموا ثروات هائلة من خلال سيطرتهم على قمم البناء البيروقراطي - التكنوقراطي للدولة، لا من خلال علاقات السوق وحقوق الملكية التقليدية. وأصبح لهم نفوذ مالي قوي، أعادوا استثماره في المجتمع، من خلال شراء ملكية وسائل الانتاج الزراعي والعقاري والصناعي. وتتمتع هذه الشريحة بنمط من الاستهلاك المتسم بالتنوع والغنى. الشريحة المتوسطة من الطبقة الوسطى، وتضم عدداً أكبر من الأفراد بالمقارنة مع الشريحة العليا. وتتكون أساساً من الموظفين الذين يشغلون وظائف إدارية وفنية وإشرافية في الوزارات والأجهزة والمصالح الحكومية وإدارات الحكم المحلي، مثل الموظفين في القطاع العام، والاساتذة، والموظفين العاملين في البنوك. الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى، وتضم الموظفين الصغار العاملين في قطاعات الدولة المختلفة. وغالباً لا يتمتع افراد هذه الشريحة بمستوى تعليمي عال، وهم يمثلون غالبية الطبقة الوسطى، وقاعدتها العريضة. كما تضم أيضاً المعدمين وصغار المزارعين وصغار الحرفيين وصغار المشتغلين بتجارة التجزئة وغالبية عمال الزراعة والصناعة والمشتغلين بمختلف أنواع الخدمات الرثة. ان الطبقة الوسطى بشرائحها الثلاث طبقة فضفاضة واسعة تستقبل يومياً مواليد جدداً من خارجها. وفي الوقت عينه تفرز في المراحل التاريخية المختلفة برجوازيين متوسطين، يصبح بعضهم برجوازيين تقليديين. ان في الطبقة الوسطى حركة مستمرة بين صعود وهبوط. البرجوازي المتوسط قد يصبح تقليدياً، ولكنه قد يصبح برجوازياً صغيراً فقيراً، لأن حركة الصراع داخل الطبقة الوسطى، وحركة الصراع العام، تؤدي الى إفلاس الكثيرين منهم وإفاقرهم. التحولات التي عرفتها الطبقة الوسطى عندما وصلت الطبقة الوسطى الى السلطة أرادت الشرائح العليا منها أن تستفرد بها فتضرب حتى الشرائح المتوسطة والدنيا من الطبقة الوسطى، وتسحق حركة العمال والفلاحين وتشوهها، لأنها أصبحت حاكمة. ولما أصبحت في السلطة باتت ذات مصلحة في أن تقيم علاقات مع السوق الرأسمالية العالمية بطريقة جديدة. وبالتالي أخذت قرارات وقف الاستيراد، ومنع السفر، كما حدث في سورية سابقاً، ثم عندما أرادت أن تستفرد بالسلطة فتحت مجالات السفر ومجالات الاستيراد لأن لها مصلحة في ذلك، وأصبحت الشريحة العليا من الطبقة الوسطى طامحة في أن تقيم علاقات ودية وتحالفية وتنسيقية مع بقايا الطبقات المالكة للثروة في الداخل. ثم أرادت في الوقت عينه أن تنهي تحالفها مع الشرائح الثورية والديموقراطية من الطبقة الوسطى، ومع العمال والفلاحين، لأنها انشأت تحالفاً آخر مع بقايا كبار الملاكين العقاريين، وبقايا البرجوازيين التقليديين، ومع الدول والأنظمة التقليدية الموالية للغرب، ومع الدول والقوى الامبريالية ايضاً. لقد انتجت رأسمالية الدولة التابعة في العالم العربي بقيادة الطبقة الوسطى بعد إخفاق التجربة الليبرالية، في حقيقة الأمر رأسمالية مشوهة، من خلال إنشاء القاعدة المادية الاقتصادية والاجتماعية، وايجاد القطاع العام، وعبر التدخيلة للدولة التي كانت مهمة وضرورية ومبرمجة بهدف تحقيق التعبئة المكثفة للموارد وتوظيفها في البناء التحتي لإيجاد وتائر قوية، لتراكم الرأسمالية لمصلحة البرجوازية القيمة والحديثة في ظل عجز رأس المال الخاص بسبب حجمه الصغير، ودرجة نضجه القليلة، والتعديل في البناء الطبقي. إن هذه الطبقة الوسطى حين استكملت بناء الدولة البيروقراطية الحديثة تحول ممثلوها الطبقيون في السلطة السياسية - الحزب والحكومة والجيش وأجهزة المخابرات - الذين استخدموا ما توفر لهم هذه السلطة من امتيازات عديدة، الى فئة البرجوازية التكنوبيروقراطية الكولونيالية. ولذا فإن رأسمالية الدولة التابعة خلال عقود الستينات والسبعينات لم تكن خارج سياق علاقات الانتاج الكولونيالية. وكانت في الوقت عينه عملية تاريخية معقدة ومزدوجة، فيه من ناحية تجددت في سيرورتها البرجوازية الكولونيالية التقليدية في عملية الاستبدال الطبقي السياسي، لمصلحة تحررها الاقتصادي، وهي من ناحية اخرى ولدت بالضرورة التاريخية فرزاً طبقياً داخل الطبقة الوسطى التي حلت في السلطة السياسية محل البرجوازية التقليدية، حيث انفصلت تلك الشريحة العليا منها، التي تمتلك السلطة وتسيطر على جهاز الحزب والحكومة، عن سائر شرائح الطبقة الوسطى، لتتحول في اطار من تجدد علاقات الانتاج الكولونيالية الى فئة البرجوازية التكنوبيروقراطية الكولونيالية. وكانت النتيجة التاريخية لهذه التجربة أن حصل التماثل الطبقي، بين البرجوازية التكنوبيروقراطية الكولونيالية والبرجوازية الكولونيالية التقليدية، لتكون البرجوازية الكومبرادورية الجديدة. العولمة الليبرالية وطحن الطبقة الوسطى إذا كان القطاع العام، أو قطاع الدولة، الذي أوجدته الشريحة المهيمنة من الطبقة الوسطى، التي تمتلك سلطة الدولة بالفعل، قد مثل"صرح الصمود"الاقتصادي والسياسي في العديد من البلدان العربية في مرحلة الستينات ولغاية نهاية السبعينات، إلا ان هذا القطاع العام قام على اساس القاعدة المادية للسيطرة الامبريالية، اي قاعدة علاقات الانتاج الكولونيالية عينها، التي كانت تقوم عليها السلطة الاقتصادية الاجتماعية للبرجوازية التقليدية، لا على اساس فك الارتباك مع الامبريالية. وهكذا حصلت تحولات طبقية في معظم البلدان العربية التي حكمتها الطبقة الوسطى، والمرتبطة أساساً بظهور الطبقة البرجوازية الكومبرادورية الجديدة، المضطلعة بقيادة القطاع العام، والمتكونة من قيادات الحزب الشمولي الحاكم، وكبار رجال الدولة، مدنيين وعسكريين الذين راكموا أموالاً طائلة من خلال سيطرتهم الكاملة على القطاع العام. وقد أتاحت السيطرة على النفظ وزيادة انتاجه وارتفاع اسعاره، فرصة تاريخية لتحول هذه الشريحة من الطبقة الوسطى شيئاً فشيئاً الى طبقة رأسمالية بيروقراطية، بل وطفيلية ايضاً. ذلك ان حركة التفاوت الطبقي التي حصلت داخل الطبقة الوسطى، التي امتلكت سلطة الدولة، قد بلورت فئة من طبقة جديدة تكنوبيروقراطية من المدنيين والعسكريين ما لبثت ان تحولت في ظروف الليبرالية الجديدة الى برجوازية كومبرادورية جديدة. والغريب ان هذه الطبقة الجديدة نفسها هي التي تنكرت بعد ذلك للسياسات الاشتراكية التي أعطت لها فرصة التمييز الاجتماعي، وهي التي أيدت سياسة الانفتاح الاقتصادي على أمل ان تتحول بها نحو مزيد من التوجه الرأسمالي. وترافقت هذه التحولات الطبقية، مع إعداد خلال عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي أهم الشركات المتعددة الجنسية، وبنوك وول ستريت، والخزانة الفيديرالية للولايات المتحدة الاميركية البنك المركزي والمؤسسات المالية الدولية البنك وصندوق النقد الدوليين ما بات يعرف في كل العالم ب"توافق واشنطن"الذي يقوم على مبدأين: الأول، حكومة الحد الأدنى، والثاني، الاسواق الحرة. ولعبت مجموعة الثماني دوراً ناشطاً في فرض عقيدة الطور النيوليبرالي للعولمة وفي تولي قيادته. والسياسة التي توجه سياساتها ترتكز على الانماط الثلاثية الابعاد المتمثلة في الاستقرار والتحرير والخصخصة. وهكذا فإن تلبية وتحقيق احتياجات الطبقة المتوسطة القلقة عالمياً هي التحدي الاقتصادي الحقيقي الذي نواجهه في عصرنا الحاضر. وليست هناك حلول أو اجابات سهلة، فالمنطق الاقتصادي يقوم على حرية رأس المال وعولمة التكنولوجيا المتطورة والحديثة ما يؤدي الى تحويل المزيد من الثروات وتوجيهها الى الاغنياء وربما الى قلة أو شريحة صغيرة من أولئك الاشد فقراً في العالم، في حين يعني ذلك المزيد من الضغوط والتضييق على الطبقة المتوسطة. ولعل المفارقة التي تشهدها المنطقة العربية اليوم تتجسد في ان التطورات الحاصلة في الاقتصادات الوطنية والنمو الذي حققته الكثير منها في السنوات الخيرة لا سيما في إطار"رسملة"المجتمع العربي اي تحول مؤسساته الاقتصادية نحو الراسمالية والاصلاحات الاقتصادية التي تضطلع بها، لم تفض إلا لمزيد من التهميش والانحسار للطبقة الوسطى وانحدار جزء مرموق منها الى طبقة دنيا تدور في حلقة مفرغة من انخفاض مستوى المعيشة والذي يتمثل بسوء الوضع السكني والصحي وانخفاض الخدمات الاجتماعية وبالتالي تدهور الرفاه الاجتماعي على نحو مخيب للآمال، الأمر الذي قاد الى وضع غريب وهو تحول المجتمعات العربية الى اقتصادات ثنائية الطبقة، الأولى هي الغنية التي تتصدر مسرح الحياة الاقتصادية والاجتماعية بوصفها تمتلك النصيب الأوفر من الثروة القومية وتتحكم بوسائل الانتاج وقريبة من السلطة، والثانية هي الطبقة الفقيرة التي تعتمد بغير حدود على الفرص التي توفرها لها الطبقة الغنية في علاقات عمل غالباً ما تبتعد عن الممارسات والتشريعات التي حددها المجتمع الدولي ممثلاً بالأمم المتحدة، وهو الوضع الذي قاد الى طحن الطبقة الوسطى. في الحقيقة التاريخية لا يجوز ان نحمل العولمة الليبرالية المسؤولية الكاملة عن تدهور أوضاع الطبقة الوسطى في البلاد العربية، ذلك ان جانباً من هذا التدهور حصل بالفعل إبان الأزمة الاقتصادية التي سبقت الموافقة على تنفيذ برامج الاصلاح الهيكلي. ولما كانت الطبقة الوسطى طبقة غير متجانسة على صعيد شرائحها المختلفة بسبب التفاوت الواضح في مستويات دخولها ومستويات معيشتها ووزنها الاقتصادي والاجتماعي ووعيها الطبقي، فإن سياسات العولمة الليبرالية الجديدة قد أثرت على شرائحها بشكل متباين. في ظل العولمة الليبرالية المتوشحة تزداد أوضاع الطبقة الوسطى في العالم العربي تدهوراً، وترتفع درجة حرمانها ومعاناتها، لا سيما ان أنظمة الطبقة الوسطى التي حكمت البلاد العربية عقب توالي الاستقلال السياسي والثورات الشعبية والانقلابات العسكرية، تحولت الى قوة قمعية وبات من الضروري بناء تكتل تاريخي جديد لمصلحة تحالف ديموقراطي أوسع بين الشرائح الراديكالية من الطبقة الوسطى وبقية الفئات الشعبية الاخرى من العمال والفلاحين. وهذا يوفر مرحلة متقدمة على الوضع العربي الراهن المأزوم، وعلى طريق المطالبة بالتغيير الديموقراطي في الوطن العربي، وانتزاع التنازلات الداخلية لمصلحة الشعوب العربية وبناء المجتمع المدني الحديث وضمان حرية الصحافة واستقلال القضاء وإشراك القوى الشعبية في السلطة. * كاتب تونسي