قبل أسبوع شاهدت في اسطنبول احتفالات شعبية بمناسبة مرور 555 عاماً على سقوط المدينة 29 أيار/ مايو 1453 يوم كانت عاصمة الإمبراطورية البيزنطية المعروفة باسم القسطنطينية، على يد السلطان محمد الثاني الذي لُقِّب منذ ذلك التاريخ بپ"الفاتح". الاحتفال بالمناسبة كان رسمياً أيضاً قاده محافظ اسطنبول بمشاركة رئيس بلديتها وكبار المسؤولين فيها والقادة العسكريين للمنطقة، وبدأت بوقوفهم خاشعين أمام ضريح"الفاتح"في الجامع المعروف باسمه وقراءة سورة الفاتحة على روحه. ولم يكن مستغرباً أن يشير معلقون وكتاب أعمدة أتراك الى رمزية الاحتفال بهذه المناسبة في ظل حكومة يقودها حزب العدالة والتنمية مع تذكيرنا بأن"فتح اسطنبول"لم يكن مناسبة يُحتفل بها في العهد العثماني نفسه. الى ذلك لاحظوا ان الاحتفال بپ"الفتح"أخذ يكتسب شعبية، الى جانب مظاهر عثمانية أخرى، خلال السنوات العشر الماضية مع صعود التيار الإسلامي ممثلاً بحزب العدالة والتنمية الحاكم منذ عام 2000. علماً أن الاحتفال ب"فتح اسطنبول"بدأه في 1953 رئيس الوزراء آنذاك الراحل عدنان مندريس 1899 - 1961 الذي أطاحه الجيش بانقلاب عسكري في 27 أيار عام 1961 وأُعدم مع اثنين من أعوانه في 15 أيلول سبتمبر من العام نفسه بعد إدانته بتهمة العمل على تقويض العلمانية وإقامة دولة دينية. مندريس ورفيقاه دفنوا في جزيرة ياسي حيث حوكموا أمام محكمة خاصة. لكن الرئيس الراحل تورغوت أوزال نجح، يوم كان رئيساً للوزراء في الثمانينات، في الحصول على قرار من البرلمان التركي برد الاعتبار إليهم ونقل رفاتهم لدفنها في ضريح خاص في اسطنبول. أوزال كانت لديه طموحات في أن تلعب تركيا دورها في محيطها الإقليمي في إطار ما كان يصفه بپ"العثمانية الجديدة"نيوأوتومانيزم لكن الفكرة ماتت مع وفاته المفاجئة في عام 1993. المفارقة، وما أكثر المفارقات في تركيا هذه الأيام، أن الصحافة التركية عجّت قبل يومين من ذلك، في 27/5، بمقالات وتعليقات بمناسبة ذكرى انقلاب 1961 العسكري أعرب بعض كتابها عن إدانتهم له وخجلهم من العار الذي ألحقه ببلادهم. وقبل ذلك بثمانية أيام شهدت تركيا الاحتفال الرسمي والشعبي بپ"مهرجان الشباب والرياضة"عطلة رسمية الذي يُقام سنوياً في 19 أيار، وهو اليوم الذي بدأ فيه الجنرال مصطفى كمال أتاتورك عام 1919 حملته المشهورة التي أدت الى إنهاء الخلافة العثمانية وتأسيس الجمهورية التركية على أنقاضها في 1923. لكن لعل أكثر ما لفت في هذه المفارقات ذات المدلولات الرمزية أن المناسبات السالفة تزامنت هذا العام مع عودة قوية لتركيا الى الشرق الأوسط عبر وساطة ما زالت مستمرة لإحياء المسار السوري - الإسرائيلي ودور فاعل في ترتيب مؤتمر الدوحة للمصالحة اللبنانية. المفارقة الأخرى هي انه: فيما أشاد الإعلام الدولي بدور أنقرة فإن الإعلام التركي تجاهله تقريباً مواصلاً التركيز على الوضع الداخلي، وتحديداً قضية الدعوى القضائية لإغلاق الحزب الحاكم وفرض حظر سياسي على 72 من زعمائه وفي مقدمهم رئيس الوزراء طيب رجب أردوغان وخطته المعلنة لحل المسألة الكردية في إطار المواجهة مع حزب العمال الكردستاني، وهو تجاهل أحبط قلة من المعلقين البارزين الذين استغربوا هذا الموقف تجاه ما اعتبروه إنجازاً مهماً للديبلوماسية التركية الهادئة لتفعيل عملية السلام في الشرق الأوسط. المعلق محمد علي بيراند كتب في عموده في صحيفة"ميليت"ترجمتها في صحيفة"توركيش ديلي نيوز"الناطقة بالإنكليزية تساءل: لماذا نحن غير منصفين تجاه أنفسنا؟ في إشارة الى الدور التركي على صعيدي المسار الإسرائيلي - السوري والمصالحة اللبنانية؟ وختم تعليقه بالإشادة بدور تركيا"الفاعل والمهيب"، منبهاً الى أن هذا النجاح ينعكس على بلاده"بغض النظر عن الزعيم الذي حققه"والى"أننا يجب ألاّ نسمح للصراع السياسي الداخلي بأن يغطي على نجاحاتنا الى هذا الحد". ولاحظ بيراند أن الفضل في هذا النجاح يعود تحديداً الى إردوغان وكبير مستشاريه أحمد داود أوغلو. الى ذلك قال الكاتب السياسي دوغو إرغيل مقاله المترجم في صحيفة"تودايز زمان"الصادرة بالإنكليزية أن تركيا"يجب ان تشعر بالفخر لقدرتها على أن تجمع معاً خصوماً قدماء، تحديداً إسرائيل وسورية، لإجراء محادثات سلام غير مباشرة بعد 8 سنوات من الجمود". المعلق جنكيز تشاندر المعروف باهتمامه وخبرته في قضايا الشرق الأوسط كاتب آخر بين القلة ممن تناولوا السياسة الخارجية لتركيا تجاه المنطقة في إطار توجهها"العثماني"الجديد. ونقل في عموده في صحيفة"ريفيرانس"الترجمة الإنكليزية في"توركيش ديلي نيوز" عن أردوغان حديثه للصحافيين الأتراك المرافقين له في الطائرة خلال رحلة العودة من بيروت، حيث حضر جلسة البرلمان اللبناني، عن وساطة تركيا بين إسرائيل وسورية ودورها في لبنان واتصالاتها في إطار ما وصفه بپ"الديبلوماسية الصامتة". أردوغان شكى قائلاً:"قرأنا أكثر من 300 مادة عن الموضوع في الإعلام العالمي... لكن الموضوع لم يحظ تقريباً بأي تغطية في الصحافة التركية، ولم تظهر أي حساسية تجاه الأمر برمته"، مضيفاً ان"السياسة الخارجية تعكس شهرة البلد. تركيا تضع أجندة عالمية وتجاهل ذلك ليس صحيحاً". هذه هي"مفارقة تركيا"، بحسب تعبير تشاندر الذي تابع في سياق حديث أردوغان في الطائرة أن المؤسسات القضائية تصدر"مذكراتٍ تحذيرية واحدة تلو الأخرى"مشيرة الى صورة مغايرة تماماً لپ"المناطقية"وپ"الانطوائية"على رغم ان تركيا تلعب الآن دوراً فاعلاً في الشرق الأوسط، هذه المنطقة التي تعتبر"مصدراً للمتاعب". ورداً على سؤال من تشاندر أجاب أردوغان:"نحن لسنا بلداً يطوقه ستار حديد. لم يعد وجود لستار حديد في العالم، لكن في بلدنا هناك من يجهد لإقامة ستار كهذا. علينا أن ننفتح اقتصادياً وسياسياً على العالم". في اسطنبول التقيت داود أوغلو الذي حدثني عن الدور الجديد لتركيا. وأوضح انه خلال أشهر زار دمشق تسع مرات مفوّضاً من قبل إردوغان للتوسط بين سورية وإسرائيل أردوغان كلف مسؤولاً آخر للاتصال بإسرائيل. سألته لماذا يعتقد أن تركيا قادرة على أن تلعب مثل هذا الدور الجديد في المنطقة؟ فأجاب:"نستطيع لأننا الآن في وضع فريد في المنطقة والعالم. لدينا علاقات جيدة مع أميركا وإيران، مع سورية ولبنان وپ"حزب الله"، مع"حماس"وپ"فتح"ومع كل جيران تركيا". وهنا يطرح نفسه السؤال الآتي: هل المنطقة جاهزة لقبول دور"عثماني"لتركيا؟ هذا ما سيكشفه المستقبل القريب.