رحلت الشاعرة العراقية الرائدة نازك الملائكة قبل عام، وصادف رحيلها مرور ستين عاماً على كتابتها أول قصيدة من الشعر الجديد، الذي أطلقت عليه تسمية"الشعر الحر". إلا أنها مع كل الحضور الشعري والنقدي الذي سجلته لنفسها، وسجله لها النقد والبحث الأدبي، ظلمت نفسها كما لم يظلم شاعر نفسه بمثل ما فعلت. فهذه الشاعرة التي بدأت تجديدها الشعري بفتح أفق متميز للتجديد والحداثة الشعرية ما لبثت، بعد أعوام حفلت بمنجز شعري متميز بالنسبة لمرحلتها، ان حاصرت تجربتها، وما كتب في إطار نظرية"الشعر الحر"واضعة إياه ضمن دائرة مغلقة من القوانين العروضية التي كانت قبل هذا، وجدت فيها عامل إعاقة لتطور الشعر. وهنا انشغل كثير من النقد والبحث النقدي عن منجزها الشعري، ليكون الاهتمام الأكبر للنقاد والباحثين منصباً على"نظرية ارتدادها"وعلى ما جاءت به من اطروحات في إطار"نظرية الارتداد"هذه. وكان سؤال الحداثة يتجدد ويتطور، ويكون للتجديد فضاء أوسع من"فضاء البدايات"في وقت راحت نازك تحاصر المكتوب من قبلها، وتضيق من فضاءاته، وتقرأ الآخرين بمنهجية الارتداد نفسها منكرة عليهم شيئاً غير يسر، في المنجز الشعري التجديدي، لأنه لا يتطابق و"مقولاتها"الشكلية والعروضية، على وجه التحديد، في عودة منها الى ما كانت قد دعت الى تجاوزه. وكان الشعراء، من مجايليها، يؤسسون لما عُدّ من قبل غير ناقد"حداثة بعدية"في وقت راحت تصر فيه على تكرار"مقولات"و"قوانين"قالت، هي نفسها، بضرورة وأهمية تجاوزها، ومتنقلة بقصيدتها من سياقها الإبداعي- التجديدي بكل ما فتح تجديدها أمامها من آفاق، الى ما يموضع هذه القصيدة ضمن سياقات اقرب ما تكون الى التقليدية الفجة. ولكي نتبين طبيعة ما ذهبت فيه،لا بدّ من تمييز ما حصل، وتعيين حدوده من خلال محورين، يستقصي الأول منهما البداية بكل ما تجلى فيها من مفهومات الحداثة الشعرية، ونتوقف في المحور الثاني عندما نسميه ب"النهاية الارتدادية"، في محاولة لتعيين كل من السياقين، شعرياً ونقدياً. أسست نازك للمحور الأول في ديوانها الثاني"شظايا ورماد"1949، ليس بالقصيدة على النمط الحر وحدها، وانما بتلك المقدمة التأسيسية التي وضعتها لمثل هذه القصيدة، والتي وجد فيها بعض النقاد"بيان الحداثة الأول". وهي"مقدمة"قائمة على موقف النقدي ممتلك الشرطين: الرؤية التجديدية الواضحة، والأساس المنهجي الذي تقوم عليه هذه الرؤية. فهي تأخذ/ وتدعو الى الأخذ بالتجديد الشعري، وتدافع عن تجديدها دفاعاً منهجياً واضح الحجة والعبارة.. وترفض التقليد وتقف موقف الناقد له في ثلاثة محاور: الوزن العروضي التقليدي، والتزام القافية على ما تقوم عليه من أساس في البناء التقليدي للقصيدة، واللغة التي رأت في تجديدها تجديداً للشعر: في ما يتصل بالعروض شنت هجومها على"الخليل بن احمد الفراهيدي"واضع هذا"العلم"، متسائلة وهي تتعرض لطريقته:"ألم تصدأ لطول ما لامستها الأقلام والشفاه منذ سنين ؟ ألم تألفها أسماعنا وترددها شفاهنا وتعلكها أقلامنا حتى مجتها وتقيأتها؟"مضيفة القول:"منذ قرون ونحن نصف انفعالاتنا بهذا الأسلوب حتى لم يعد له طعم ولا لون. لقد سارت الحياة وتقلبت عليها الصور والألوان والأحاسيس، ومع ذلك مازال شعرنا صورة ل"قفا نبكي"و"بانت سعاد". الأوزان هي هي، وتكاد المعاني تكون هي هي". أما في حقل اللغة فقد ردت على من يتساءل:"ما اللغة؟ وأية ضرورة الى منحها آفاقاً جديدة؟"فقالت متهمة السائلين بأنهم ينسون"أن اللغة إن لم تركض مع الحياة ماتت"، ومؤكدة أيضاً:"إن اللغة العربية لم تكتسب بعد قوة الإيحاء التي تستطيع بها مواجهة أعاصير القلق والتمزق التي تملأ أنفسنا اليوم"، واصفة إياها ب"أنها قد كانت يوماً لغة موحية، تتحرك وتضحك وتبكي وتعصف، ثم ابتليت بأجيال من الذين يجيدون التحنيط وصنع التماثيل دون ان يدركوا أن شاعراً واحداً قد يصنع للغة ما لا يصنعه ألف نحوي ولغوي مجتمعين، ذلك أن الشاعر، بإحساسه المرهف وسمعه اللغوي الدقيق، يجد للألفاظ معاني جديدة لم تكن لها، وقد يخرق قاعدة مدفوعاً بحسه الفني، فلا يسيء الى اللغة وإنما يشدها الى الأمام". ولم يكن موقفها من"القافية الواحدة"بأقل هوادة، بل كشفت في هذا المجال عما تلجأ إليه ضرورة اكتمال الوزن والانتهاء بقافية من حشو يسيء الى الشعر مبنىً ومعنى/ فضلاً عن ان الشعر الحر"يطلق جناح الشاعر من القافية"? على حد تعبيرها. وعدت ما قامت به في منحاها الجديد الشعر الحر لوناً بسيطاً"من الخروج على القواعد المألوفة"، وهو ما يعني أنها كانت تتطلع الى تحقيق ما هو أبعد، وأعمق، ما"يتطلبه تطور المعنى والأساليب". إلا أنها ستتراجع عن هذا الموقف التجديدي تراجعاً كلياً. فهي كما اقترحت في مقدمة"شظايا ورماد"وعياً شعرياً ينتمي الى الحداثة والموقف الحداثي - التجديدي، متمثلة بقول برنارد شو"ان اللاقاعدة هي القاعدة الذهبية في الفن"سنجدها في كتابها"قضايا الشعر المعاصر"1962، وما كتبت من بعده، شعراً ونثراً نقدياً، تعمل على إزاحة ما سبق لها من رؤية وموقف شعريين، وتكريس بديل شعري تقليدي يستند الى معايير تقليدية - كما جاء في قصيدة لها كأنها ترد بها على نفسها، بما جاء في المقدمة: -"من الجِزْعِ من قلب سِقْطِ اللوى/ ووادي الغمارِ، وبرقةِ تهمْدْ ومن رَبعِ نُعْمٍ عفتْهُ الرياحُ/ فأقفرَ من أهله، وتَبدّدْ"..." وستصبح في هذه المرحلة أقرب إلى"العقل البياني"المحدد بأصل معطى، يتوجه انطلاقاً منه ويعمل تأسيساً عليه. وقد انتقل هذا الموقف من"شكل"القصيدة الى"بنيتها الداخلية". وجاءت رهاناتها الشعرية والنقدية في هذه المرحلة ممثلة لضرب من ضروب انكفاء الخطاب، الشعري والنقدي، لديها الى"ماضٍ"كانت قد رفضت مواضعاته التقليدية. وسيهيمن"النمط الذهني"على خطابها الشعري. غير أن هذا كله بقدر ما كان له من أبعاد سلبية في شعر نازك ونقدها، كانت له آثار ايجابية في الواقع الشعري، ذلك أن"ردود الفعل"على موقفها/ توجهها هذا ستحرك الشعر نحو آفاق أوسع وستكون عاملاً من عوامل تفجير الشكل واللغة في القصيدة الجديدة. وستشهد تجربة التجديد ذاتها تحولات جذرية في أكثر من مستوى من مستويات الإبداع والتلقي، وستتجاوز قصيدة"الشعر الحر"عند سواها شروطها الأولى... بينما ظلت نازك لا تتحرك ضمن"متن ثابت"وجاء معظم ما كتبت من شعر في هذه المرحلة، ممتدة بها الى النهاية، ممثلاً لحالة انسحاب شعري من فضاء التجربة وآفاق الواقع الحي والانسراب نحو نمط شعري مقلّد، أكثر من كونه ذا خصوصية إبداعية. فالنسق الذي اتبعته وأخذت قصيدتها بمواضعاته الشكلية التقليدية نسق أقرب الى"إعادة إنتاج الماضي - والسابق"أكثر من كونه نسق تجديد وإبداع، مدعمة بذلك سلطة الشكل، والموضوع، واللغة- أي سلطة"النموذج"بوصفه بنية شعرية متصلة بمفهوم الشعر بوجه عام، وليس بمفهومات التجديد، والتغيير، والتحول التي كانت قد دعت إليها في"المقدمة"، واستنتها منهجاً في شعرها في مرحلتها التجديدية التي نجد تجليات الاختيار التجديدي واضحة فيها. وهنا نأتي الى قضية مهمة لعلها كانت العامل الفعلي المؤثر في انعطافها هذا من"التجديد"الى"الارتداد"عن التجديد ومجافاة الجديد، ألا وهي"الذات الفردية المتعالية"عندها، و"شعور الأمومة"أيضاً: فهي التي قالت بأنها أول من كتب قصيدة"الشعر الحر"في معناها وبعدها المتحققين عندها. وعلى هذا فإن هذا الشعر هو"وليدها"الذي أخذته، بداية، بالرعاية والاهتمام فاتحة طريق المستقبل أمامه. إلا أنه ما أن شبّ عن الطوق - كما يقال - حتى أخذ"طريقه الخاص"الذي وجد فيه تكامل شخصيته واستقلاليتها، لتجد نفسها، في مواجهة هذا، أمام مسألتين: تنازع"الوصاية عليه"- بوصفه وليدها... ومحاولته الخروج عن"السياق التربوي"الذي أرادته له من موقع"الأمومة"، فعملت على تقييده بقيود"العروض"، وحفزت عليه"سلطان اللغة"، دافعة به الى"الشكل"الذي يجعل من عدم خروجه عليه امتثالاً منه ل"عصا الطاعة"التي عليه أن لا يشقّها. هذه"الذات الفردية"- التي هي"ذات احتيازية"? دفعت بنازك الى إنكار كل ما لا يحمل"بصمتها الشعرية"التي تحمل الإقرار أو النقض بكل تغيير يطرأ على النص الشعري أي تحديثه... فإذا بها، وهي التي بدأت مسكونة بفكرة تجديد الشعر العربي، تحدد القيم الشعرية الحداثية بمحددات معيارية قاسية. وفي وقت بدأت فيه حركة الشعر الجديد على تبيئة التجربة الشعرية الجديدة ضمن سياقات شعرية وثقافية جديدة، هي سياقات الحداثة، وجدنا نازك تعود بنا، وبالشعر، الى سياق تداولي آخر يبتعد بالقصيدة عما أنجزته في إطار الحركة التجديدية، مكرسة، وداعية الى تكريس قيم معيارية كانت هي نفسها قد تجاوزتها في أعمالها الأولى وفي أطروحاتها النقدية.. وبذلك كانت قد أخطأت طريق الحاضر، وخسرت الرهان على المستقبل - بعد أن أخلت رأسها من شروط الوعي التجديدي. ولم يعد التجاذب بين: الذات والعالم، الإنسان والحياة، الفرد والمجتمع، شاغلها الشعري. وأخذت الشعر في بعد كونه"أداة اختيار فردي"? كما هو عند أسلافها الرومانسيين - بالبعد الضيّق لمعنى العبارة. وكان لما أثارته بموقفها هذا انعكاسه السلبي عليها، في وقت كان فيه ايجابياً بالنسبة لحركة الشعر الجديد: فمن جانبها قادها هذا الموقف إصراراً على التمسك بأطروحاتها، والعمل على تكريس هذه الأطروحات من خلال إخضاع عملها الشعري للاستجابة لها. أما من جانب الآخر - الشعري، فإن سجالها النقدي معه قد دفع بالحركة الشعرية الجديدة، وبشعرائها الى البحث عن آفاق جديدة، مع إحداث التطوير في المبنى الفني للقصيدة. فكانت، من حيث لم تحتسب، قد ساعدت في تطور الشعر الجديد.