الأنطولوجيا الضخمة التي أعدها الشاعر والناقد اللبناني حمزة عبود عن الشعر اللبناني المعاصر، دار الفارابي، 2008، تنم عن جهد كبير في جمع القصائد المختارة وفقاً لمعايير حددها عبود في المقدمة المقتضبة:"اختيار النماذج الأكثر تعبيراً عن تجربة الشاعر، فتثبت النصوص التي عرف بها الشاعر في الأوساط النقدية والأدبية، كما تلقي الضوء على النصوص المهملة التي يمكن أن تشكل مستنداً إضافياً لقراءة تجربته الشعرية من مصادر متعددة". تنطوي هذه"المعايير"إذاً على ما هو غير محدد، فهي تجمع بين"الأكثر تعبيراً"وپ"المهملة"، وهما أمران ذاتيان يصعب ضبطهما منهجياً، لا معايير يعول عليها في اختيار القصائد. فالمعايير المحددة بدقة في أنطولوجيا ما، تهدف إلى إنصاف مشهد شعري في فترة معينة، ويمكن استنباط المعايير في حال كان الهدف من الأنطولوجيا واضحاً في ذهن مؤلفها الذي لا يمكن حصر مهمته باختيار القصائد. وفي حال الشعر اللبناني المعاصر، تزداد الأمور صعوبةً لأنه شعر متنوع المذاهب والاتجاهات، كشأن الشعر العربي بعامة. وليس التنوع في المذاهب والاتجاهات ناجماً عن الغنى في طرق التعبير، ولا هو يشير إلى استقرارها أصلاً، بل لعله يشير إلى"أزمة شعرية"تظهر أوضح ما يكون في هذه الأنطولوجيا لأنها تغطي فترةً حرجةً وانتقالية هي"مناخ السبعينات وما قبله وبعده"، بحيث تمثل هذه الفترة الانتقال الصعب من إيقاع ذي نظام راسخ مكين وله جرسه الآسر القصيد ذو الشطرين المقفى ومثاله في الأنطولوجيا سعيد عقل، إلى إيقاع في طور الاقتراح يحمل ما يكفي من إغراءات التجديد آن يحمل ما يكفي من كمائن البدايات تيار التفعيلة ومثاله هنا خليل حاوي، إلى إيقاع كثير التفلت ولا سبيل إلى ضبطه تيار قصيدة النثر ومثاله أنسي الحاج، وصولاً إلى تجارب الجيل الثاني الذي رغب في الاختلاف عن السلف والرواد في آن، فنأى بپ"ذاته"لتصبح هي بمثابة معادل حقيقي لپ"الموضوع الشعري"بعد أن كانت سابقاً إحدى أهم حيل الشعر للارتقاء ولوصل الخاص بالعام، وغاص فيها فامتشق لغةً شعريةً صعبةً ومعقدة عباس بيضون، بول شاوول مثلاً أو غريبةً بسيطةً منبتةً شبيب الأمين، فادي أبو خليل مثلاً، وبينهما مروحة من الخيارات والاقتراحات الشعرية التي تبدو متلكئة لدى بعض الشعراء ومكتملة لدى بعضهم الآخر. أدت المعايير غير المضبوطة من جهة والفترة الزمنية الانتقالية التي تبطن المتناقضات من جهة ثانيةً دوراً كبيراً في عدم الاكتفاء بقصيدة واحدة للشاعر، بل فرض ذلك زيادة عدد القصائد لإنصاف تجربة الشاعر من جهة ولإنصاف المشهد الشعري من جهة أخرى، وهو ما حتم العودة إلى بدايات بعض الشعراء وإيراد قصائدهم الأولى في الأنطولوجيا جنباً إلى جنب مع القصائد المتأخرة التي تفصح عن نضجهم الفني. وتستحق هذه النقطة الوقوف عندها، نظراً إلى أهميتها وإلى إهمال الإشارة إلى ذلك في المقدمة المختصرة: من المعروف أن الشعراء لا يولدون دفعةً واحدةً بل على دفعات، وتبطن قصائدهم الأولى عادةً خياراتهم الشعرية الناجمة عن تضافر أمرين: التأثر والرغبة الجامحة في الاختلاف، أو ما يسمى المشروع الشعري الخاص بكل شاعر. ويكون التأثر على نوعين: إما التأثر بالتجارب الناضجة فنياً لمن سبقهم من الشعراء العرب، أو التأثر بقصائد لشعراء غير عرب، حيث نعلم أن أحد أهم مصادر الشعر العربي الحديث هو الشعر الغربي سواء كتب باللغة الفرنسية أم الإنكليزية. لذا فإن بدايات التجارب تمثل ما هو غير مستقر عادةً وتمثل أيضاً ما يرغب الشاعر نفسه في إسقاطه من ديوانه، ما يعني أن ضمها إلى الأنطولوجيا سيزيد من صعوبة ضبط معايير الاختيار التي تقع أصلاً بين منزلتين"زئبقيتين": الأكثر تعبيراً والمهملة. وهو الأمر الذي أدى إلى زيادة حجم الكتاب، فتحولت"المختارات"باتجاه التسجيل، الذي يبطن أمراً غير مبرر هو"الحفظ"، وكأن الهدف من الأنطولوجيا هو هدف تدويني قبل أي شيء. ويظهر أن ردود الفعل على أنطولوجيات سابقة للشعر العربي المعاصر، قد مكرت بالشاعر اللبناني حمزة عبود، فدفعته إلى زيادة عدد القصائد لكل شاعر، ودفعته كذلك إلى تقديم مقتضب طارد لنقد سابق طال أنطولوجيات سابقة، حيث كان النقد الموجه إليها يطاول عادةً ما أغفلته أو أسقطته أو تجاهلته، ليدور النقد في فلك ما غاب بدلاً من أن يطاول منهجية تأليف الأنطولوجيا وضرورة ضبطها بمعايير محددة، خصوصاً أن الشعر الحديث لا يتجاوز الستين عاماً، ما يعني أن الاستقرار فيه وانتظام طرق قوله من أجل التفنن في اقتراحاته يظهران في المتأخر منه أكثر. ومع ذلك، تشف اختيارات حمزة عبود عن أكثر من اقتراح أو مذهب شعري يخص قصيدة النثر، حيث نجد كثيراً من القصائد"الحداثية"التي تتبع استراتيجية محددة يظهر أنها في طريقها إلى الاستقرار، ويمكننا أن نخمن إلى حد ما بدايات هذا الاتجاه بالعودة إلى قصائد أدونيس على سبيل المثل، حيث تتميز قصائده عموماً بالجمع بين المتباعدين:"أحمل هاويتي وأمشي، أطمس الدروب"، فالفعل أحمل/ أطمس يناقض معنوياً وبصورة تامة هاويتي، الدروب، لكن الجملتين معاً تؤديان إلى معنى واحد. إن هذا الجمع الذي يفضي إلى توليد استعارات وأحابيل بلاغية، سيؤدي إلى أمرين في الشعر: خلق المعنى، وابتكار اللغة الشعرية الخاصة بكل شاعر. ويبدو أن اللجوء إلى هذه"التقنية"إن جاز التعبير، هو الذي تطور لاحقاً، ونحن نجد آثاره في قصائد لشعراء آخرين، حيث تصبح الجمل حياديةً، تخفي"الجمع بين المتباعدين"، وتتجه أكثر إلى بناء مجازاتها وكناياتها من خلال التركيز على قوة البناء في القصيدة:"السروة أيضاً هي الوحشة/ مثلما/ الحصاة هي الصمت./ تشبيه فحسب". وهو يبين كيف يتنامى المعنى من خلال القران المبتكر بين لفظين متباعدين يحيلان إلى معنىً، ثم لفظين آخرين متباعدين كذلك يحيلان إلى معنىً ثان، لتمتد القصيدة فتحمل معناها العام الناجم من تضافر أكثر من معنى، على نحو يصبح فيه حذف سطر من القصيدة أمراً متعذراً. وإضافة إلى هذا الاقتراح، تبطن خيارات حمزة عبود انحيازاً واضحاً إلى القصائد التي تراكم الصور الشعرية""العاري في بيجامة الانتهاء/ أمسك الشعاع/ هلال اليود/ رسن الذهاب/ والعنكبوت الأزرق"، فضلاً عن طغيان القصائد ذات النبر الحزين المأسوي، لكأن الشعر اللبناني يرادف القسوة والألم، ويظهر ذلك كله في قصائد تتجنب الإشارة إلى المكان / لبنان، وتقصي صورته التي ابتدعها شعراؤه الرومنطيقيون: البلد الأخضر الصغير، لتحل بدلاً منها قصائد ذات لهجة"شخصية"مأسوية، تشير إلى الخسارة وإلى هزيمة الإنسان. واختيارات عبود هنا هي تعبير عن"الذائقة الجديدة"التي تتطير من"الإيديولوجيا السياسية"وتظهر عادة في القصائد التحريضية المباشرة، لذا فإنها تنقح الشعر اللبناني المعاصر منها، وتذهب نحو الهزيمة الموجودة في قصائد تركز على الهامشي وعلى التجارب اليومية المريرة. ومع ذلك ثمة حيز - ولو ضئيل - للقصائد التي تظهر إنجاز الشعراء اللبنانيين بطريقة واضحة، فتظهر اقتراحاتهم أكثر صقلاً، وتظهر خياراتهم الفنية أكثر نضجاً، وهي في الغالب قصائد الحب التي تحمل الفرح على الدوام بقطع النظر عن التجربة الشخصية، ذلك لأن الموضوع الشعري الكبير - وهو الحب - يمثل تحدياً لكل شاعر، من حيث أنه يدفعه إلى التركيز على تقنيات القول والإفادة من عناصر الشعر كلها من أجل الإتيان بما هو مختلف ومبتكر:"جميلة كمركب وحيد يقدم نفسه/ كسرير أجده فيذكرني سريراً نسيته"، فالفرح يأتي حين تكون القصيدة قطعةً فنيةً قبل أي شيء، وهو ما يستطيع القارئ الوصول إليه بعد لأي ومشقة وفرز للقصائد في هذه الأنطولوجيا الضخمة التي غاب عنها الهدف التأليفي، لذا رتبت أسماء الشعراء فيها ألفبائياً واختلطت الاقتراحات، فتحولت الأنطولوجيا إلى سجل بدلاً من أن تكون دليلاً، وافتقرت إلى مقدمة نقدية علمية واسعة تعين القارئ على تذوق الشعر اللبناني المعاصر المتشعب الخيارات والجماليات، وتدله على إنجازهم ومساهمتهم في المشهد الشعري العربي بعامة.