لعل متتبع حركة الشعر العربي المعاصر في المغرب لا بد من ان تسترعي انتباهه الدينامية التي يعرفها هذا الحقل. فأحياناً تتقاطع جهود بعض المؤسسات الثقافية مع جهود بعض الأفراد الشعراء والنقاد والمترجمين لتمنح هذه الحركة الحدة الكفيلة بخلق الدينامية وخلق الحدث الشعري الذي لم يكن من تقاليد المغرب الثقافي في العقود الماضية. لا تمس حركة الشعر المعاصر في المغرب النص النقدي فقط، كما قد يذهب الى ذلك الملاحظ المتعجل المحكوم بمسبقات الماضي وصراعاته، بل هي تنطلق أساساً من النص الشعري ذاته، في مختلف صيغ بنائه ورهاناته الجمالية، لتشمل مختلف العناصر المساهمة في خلق الثراء وفتح المحتملات الشعرية الحداتية أمام الحركة. وأكثر ما يلفت الانتباه في العقد الأخير من عمر الثقافة المغربية هو بروز ظاهرة نشر الأنطولوجيات الشعرية. ولا بد من التذكير بأنها ظاهرة هيأت للشعر المغربي تداولاً أوسع، من خلال فتح مدونته على لغة الآخر، وجعلت اللغة العربية تحل ضيفاً شعرياً على اللغات الأخرى، بخاصة الفرنسية والإنكليزية، مدعمة بذلك ألق الضيافة الذي رسمته الجغرافيات الشعرية العربية للغة العربية في العالم. يعود تاريخ إصدار أول انطولوجيا للشعر المغربي إلى سنة 1929. ففي هذه السنة أصدر محمد بلعباس القباج أول ديوان للشعر المغربي، في العصر الحديث، بعنوان:"الأدب العربي في المغرب الأقصى". ومنذ هذا التاريخ، وعلى امتداد العقود الأربعة الأخيرة، لم تصدر أية انطولوجيا تضم منتخبات من الشعر المغربي. على أن في السبعينات ظهرت بعض الأنطولوجيات بالفرنسية، كان أهمها أنطولوجيا الطاهر بنجلون الصادرة بعنوان:"الذاكرة المستقبلية"عن دار ماسبيرو. واستمر حال المنتخبات الشعرية بالعربية على ما كان عليه من غياب الى حدود آخر التسعينات، حين تكفل الشاعران صلاح بوسريف ومصطفى النيسابوري،عن بيت الشعر في المغرب، بوضع أول أنطولوجيا بالعربية بعنوان:"ديوان الشعر المغربي المعاصر". وعلى رغم بعض التعجل أو الذاتية التي شابت الأنطولوجيا على مستوى انتخاب النصوص ولغات الكتابة، فإنها تبقى حدثاً تاريخياً يستشرف، ليس فقط من خلال متنه الشعري، بل أيضاً من خلال مقدمة الشاعر محمد بنيس ومدخل الناقد عبدالرحمن طنكول ما مثله هذا الشعر من الحركية المغامرة باتجاه المستقبل. غير أن ما سيشكل حدثاً ثقافياً وشعرياً في السنتين الأخيرتين هو صدور أنطولوجيتين بالفرنسية عن الشعر المغربي المعاصر. الأنطولوجيا الأولى وضعها عبداللطيف اللعبي الشاعر المغربي المقيم في فرنسا والمعروف بتجربته الثقافية والسياسية التقدمية باعتباره أحد مؤسسي مجلة"أنفاس"1966 ، والأنطولوجيا الثانية وضعها الشاعر المغربي الشاب، محمد العمراوي، المقيم بدوره في فرنسا والمعروف هناك ببعض نشاطه على مستوى ترجمة الشعر. أنطولوجيا عبداللطيف اللعبي منشورات الاختلاف، باريس 2005 صنعت الحدث، وأشاعت لحظة صدورها انطباعاً بكونها أكثر الأنطولوجيات المغربية طموحاً وإحاطة وجدية، لكنها سرعان ما كشفت عن كونها أقل ملاءمة بسبب ما صدرت عنه من هاجس التجميع ونظام الحصص ومعيار التمييز الإيجابي. ثم إن خصوصية لغات الكتابة في المغرب تقتضي احترام تجاربها وأزمنة شعرها وحداثتها. فحداثة الشعر المغربي بالعربية، في اللحظة الراهنة، لا يمكن أن تكون هي حداثته ذاتها في اللغة الأمازيغية أو العامية الزجل. فالشعر المغربي بالعربية خبر الحداثة منذ الستينات وهو متأثر بالسياق العربي والعالمي ومتفاعل معهما، وهذا الاختبار أو التفاعل لم يتح للغات التعبير الأخرى إلا بكيفية جد محدودة. واذا كانت أنطولوجيا اللعبي أثارت لحظة تقديمها في المغرب ردود فعل منتقدة في الغالب شكلت الصحافة الوطنية والعربية منبراً لها، فإن أنطولوجيا محمد العمراوي الصادرة عن بيت الشعر رون آلب في فرنسا 2006 قوبلت بصمت مريب، مع أنها تقوم على تصور أنضج وتقدم صورة أكثر واقعية عن حقيقة الشعر المعاصر بالعربية في المغرب، كما أنها تكشف عن جنوح الى المستقبل من خلال انفتاحها على الأجيال الجديدة ورهانها على الشعرية كقيمة عليا. ومن مجموع الشعراء الممثلين في هذه الأنطولوجيا 54 شاعراً خصص العمراوي أكثر من نصف المتن للجيل الجديد من الشعراء المغاربة. وهو إجراء لا ينم فقط عن تعاطف بقدر ما يكشف عن رغبة في تقديم واقع شعري ما فتئ يتوسع ويغتني بشعراء قادمين من خلفيات ثقافية متنوعة، شعراء لم يعودوا مهيّئين لوراثة الأشكال الشعرية في المغرب من دون صراع، بل حرصوا على تحصيل وعيهم وانتزاع مساحتهم وابتكار شكلهم بأسلوب لا يخلو من حدة واصطدام ومزاجية. إن حرص الشاعر محمد العمراوي على تمثيل مناسب لمن سماهم بالشعراء الجدد، يجد مبرره في الانهماكات الشعرية التي استولت على هؤلاء الشعراء، والتي جعلت من قضية شكل الكتابة سؤالاً أساسياً لا يقل أو ينفصل عن سؤال المعنى في هذه اللحظة من وضعية الذات والمجتمع والعالم. وبذلك يكون سؤال الشعر في المغرب استئنافاً لسؤال سبق لمجلة"الثقافة الجديدة"أن طرحته، وهو بالقدر ذاته، استئناف لسؤال الحداثة الشعرية كما تبلور في عموم العالم العربي، منذ مجلة"شعر"إلى اللحظة الراهنة. ويبدو محمد العمراوي، في هذه الأنطولوجيا، مقتنعاً بجدوى الترجمة وبحدودها في آن، لذلك يرى أن"صيغ الكتابة وصراع الأشكال يصعب التقاطها في الترجمة بما أن الأمر يتعلق بالعلاقة بالدال. من هنا فالفارق المنحصر في هذا العنصر الشكلي بين قصيدة وأخرى يكون أقل وضوحاً. فقصيدتان قصيرتان يمكن أن تظهرا متقاربتين، بينما هما في الواقع مختلفتان في مقاربتهما للايقاع وتوظيفهما للمعجم"ص21. وإجمالاً فمحمد العمراوي تمكن، بمساعدة المترجمة المعروفة كاترين شاريو، من وضع أنطولوجيا تناسب الدينامية الثقافية التي يعرفها حقل الشعر في المغرب. ولولا سوء التقدير الذي يطبع سلوك بعض الأفراد والجماعات في بلدنا لخصص لهذه الأنطولوجيا الاستقبال الملائم، ولأثارت على الأقل بين المهتمين الأسئلة التي تثيرها عادة الأنطولوجيا كجنس تأليفي سجالي. ومع ذلك، فإن صدور أنطولوجيا شعرية بالفرنسية، في هذه اللحظة الراهنة، عن الشعر العربي في المغرب يعد في حد ذاته قيمة مضافة وعملاً ثقافياً موجهاً الى المستقبل. ولتخليد جلالة هذه اللحظة، فقد حرصت الفنانة التشكيلية فان باط على تزيين الأنطولوجيا، التي صدرت في حجم كبير، برسوم زاهية تستغرق كل مساحة الغلاف، وتستلهم فيها القصائد وروح المغرب والخلفية المتوسطية لجغرافيته وثقافة أهله.