العينان وحزن النظرة واسترخاء الجلسة في استسلام وجودي لافت، كأنها كلها مأخوذة من لوحة مبكرة لبابلو بيكاسو، بل حتى هناك بورتريه لبيكاسو رسمه لنفسه يبدو قريباً جداً من لوحة ماتيس هذه، واسمها"المرأة ذات القبعة". لكن الألوان في اللوحة لا تمت بأية صلة الى عالم بيكاسو، وعلى الأقل كما كان سائداً أوائل القرن العشرين حين رسم ماتيس هذه اللوحة. سيلوّن بيكاسو لوحاته أكثر وأكثر، وصولاً أحياناً الى جعل اللون هو هو موضوع اللوحة، لكن هذا لن يحدث قبل أواسط القرن العشرين، حين كان رسام التكعيبية الأشهر قد أنجز العبور بما لا يقل عن أربع أو خمس مدارس فنية. أما عند بدايات القرن العشرين فكان لا يزال عند بؤس مرحلته الزرقاء والأخرى الوردية وصور الحزانى والفقراء والمهمشين. في ذلك الوقت، كان ماتيس أصبح واحداً من أساتذته الكبار، حتى وإن كانت الفوارق ستظل كبيرة بين فني الرجلين عقوداً طويلة، أي قبل ان يخوض بيكاسو المغامرة الشكلية حتى منتهاها، أسوة بما كان ماتيس فعله طوال حياته الفنية. غير ان المهم ليس هنا، بالطبع. المهم هو ما تمثله لوحة"المرأة ذات القبعة"في عمل ماتيس نفسه، وفي الحركة الفنية في عصرها. عرض هنري ماتيس هذه اللوحة عام 1905، في واحد من المعارض الأولى لجماعة"الضواري"... وكان طبعاً معرضاً جماعياً، لكن العارضين لم يكونوا قد حُمّلوا بعد هذا الاسم. ولعلنا لا نبدو بعيدين من جادة الصواب إن نحن قلنا ان لوحة ماتيس كانت الأبرز في ذلك المعرض، ما جعل كثراً من النقاد والمؤرخين يرون ان ذروة تيار الضواري تحقق مع هذه اللوحة. غير ان الناقد لويس فوسيل، نظر الى الأمور يومها من ناحية أخرى، حيث انه حين تحدث عن ذلك المعرض استخدم في الوصف عبارة صارت رائجة في مجال النقد الفني بعد ذلك وهي"دوناتيلو وسط الضواري"، مشيراً بهذا الى الفنان الإيطالي النهضوي دوناتيلو، الذي جعلته الصدفة يشاطر عارضي الضواري القاعة نفسها في معرض الخريف عام 1905. كان الناقد يريد ان يفرق بين حضور فنان عصر النهضة وپ"ضراوة"أولئك الفنانين الحديثين، الذين من الواضح انه إنما اراد الحط من شأنهم بإطلاق تلك الصفة عليهم، لكن الذي حدث هو ان الاسم صار ملازماً لهم، ولم يعد يشكل أي انتقاد أو شتيمة. مهما يكن من أمر، لا بد من ان نشير هنا الى انه إذا كانت مفاهيم وجماليات"الضواري"تنطبق على معظم العارضين، وربما ايضاً على هذه اللوحة من لوحات ماتيس، فإن من الصعب القول ان كل فنه ينتمي الى فن هؤلاء الضواري. بل ان في هذه اللوحة نفسها ما هو داخل في عالم الضواري، وما هو خارج عن هذا العالم. إذ كما أشرنا ينتمي الوجه والنظرة الى عالم بيكاسو، فيما يغلب على بقية العناصر الأسلوب الذي ولد في ذلك الحين... اسلوب الضواري. من هنا لا يعود غريباً ان نقول ان اول ما يطالعنا في هذه اللوحة، هو كم الألوان الكبير فيها: إنها أشبه بحديقة ألوان، ما يجعل المرأة المرسومة وهي زوجة الرسام تبدو كإناء زهور ربيعية، حيث ان الوجه نفسه، بكل تعبيره المتناقض كلياً مع المناخ العام للوحة، لا يعود ذا أهمية هنا على الإطلاق. الأهمية هنا لعنصر اللون الطاغي، حيث تتجاور الألوان في أغلب مساحة اللوحة من دون ان تكون الحدود بينها واضحة. أما حين يستخدم اللون الأسود كتلاتٍ أو خطوطاً، فإن الأمر ليس كما سيكون لدى بيكاسو في لوحاته كثيرة الألوان لاحقاً، مجرد خطوط للتحديد، بل يصبح الأسود كتلة لونية بدوره، تستخدم للتشديد على قوة الألوان الأخرى، حتى وإن بدا في بعض الزوايا تحديدياً لا أكثر: فمثلاً عند خلفية الكتف، يبدو الخط الأسود أول الأمر تحديدياً، يوضح إطار لقاء جسم المرأة، من هذه الناحية بخلفية اللوحة، غير ان هذا الخط إذ ينحدر الى اليد، يتحول بسرعة الى كتلة لونية، تكاد تكون تزيينية خالصة، والأمر نفسه في الناحية الأخرى من الثوب. والقبعة التي تبدو في فوضويتها اللونية، أشبه بحوض ماء صغير مملوء بألعاب الأطفال، تحدد في أكثر من مكان بخطوط سود أيضاً، لكن هذه الخطوط تتحول هنا، كذلك، الى كتل لونية تتمكن في بعض الأحيان من إعطاء حجم القبعة نفسه عمقاً. ولعل ما يلفت هنا، حقاً، أن ماتيس الذي استخدم الأسود، بوفرة الى حد ما، في بعض خطوط وجه السيدة، وفي ثوبها، استغنى عنه تماماً في خلفية اللوحة، حتى في مجال ما كان يمكنه تحقيقه عبره من إعطاء عمق لهذه الخلفية. الخلفية تألفت فقط من بقع لونية فاتحة أو حادة، تبدو في نهاية الأمر غير واقعية، على عكس بقع الثوب والقبعة اللونية التي بدت منطقية الى حد ما. ولعل هذا التجاور بين التلوين المطلق للخلفية، والتلوين النسبي للكتلة التي تمثلها المرأة بثيابها وقبعتها ومكان جلوسها، هو ما قرّب لوحة ماتيس هذه الى فن الضواري، الذي كان معتمداً على التلوين الخالص من دون أي موضوع بارز. توجد لوحة"المرأة ذات القبعة"اليوم معلقة في"متحف سان فرانسيسكو للفن الحديث"في ولاية كاليفورنيا الأميركية، وهي لا تزيد ارتفاعاً عن 79.4سم، وعرضاً عن 59.7سم. لكن مالكيها الأولين كانا الكاتبة وسيدة المجتمع الأميركية التي كانت تعيش في ذلك الحين في فرنسا غرترود شتاين وزوجها ليو. ويروى أنه كان لشراء هذين اللوحة من هنري ماتيس في ذلك الحين تأثير شديد الإيجابية في هذا الفنان الذي كان يشكو من سوء الاستقبال العام لفنه خلال تلك المرحلة، على رغم ان شهرته كانت واسعة بل ان هجوم النقاد على هذه اللوحة بالذات من لوحاته كان كبيراً وشرساً، لا سيما منهم الناقد كميل موكلير، الذي وصف اللوحة بأنها ليست اكثر من"مزهرية ملونة رميت كيفما اتُّفق في وجه الجمهور". والحقيقة ان موكلير لم يكن، ولكن للوهلة الأولى فقط، كبير الظلم لماتيس في قوله هذا، ذلك ان هذا النوع من لوحات"الضواري"كان يلوح لمن ينظر إليه للمرة الأولى غير مفهوم وعابق بقدر كبير من العدوانية، غير ان تأملاً ثانياً للوحة ? ولهذه اللوحة بالذات يسمح بتفكيك عناصرها وأبعادها، كان من شأنه ان يضع"المرأة ذات القبعة"في مكانها الصحيح، ليس فقط في سياق معرض الضواري، بل في سياق مسيرة ماتيس ككل. ذلك ان هذه اللوحة تمثل، بعد كل شيء وفي شكل فيه من الوضوح والإيجابية ما فيه، نقطة انعطاف رئيسة في مسار ماتيس الفني. بل لنقل ان هذه اللوحة بمقدار ما جعلت منه واحداً من"الضواري"أعطته في الوقت نفسه فرادته بين هؤلاء، وبالتالي كل تلك المكانة الفريدة التي كانت له طوال القرن العشرين. وهنري ماتيس ولد عام 1869، في الشمال الغربي لفرنسا، ليموت بعد ذلك بخمسة وثمانين سنة، في مدينة نيس، في الجنوب الشرقي منها. وهو بين ذينك التاريخين عاش حياة فنية كرسها كلها للرسم والنحت والتزيين، مشتغلاً في شكل أساس على الأشكال الفنية وعلى التلوين، من دون ان يحرص حقاً، على ان يعتبر جزءاً من أي مدرسة أو تيار. ومن هنا حين اعتبر من الضواري أوائل القرن العشرين، رأيناه يسارع الى ضبط اتجاهه، بحيث صار منذ عشرينات القرن العشرين، يُعتبر واحداً من كبار الكلاسيكيين، الحريصين على نزعتهم الفردية في التاريخ الفني للقرن العشرين الفرنسي. [email protected]