إذا كانت الرحلات التي قام بها الفنان الفرنسي هنري ماتيس الى المغرب بين عامي 1912 و1913 اشتهرت في مسار حياته وفنه كونها أدت به الى انتاج عدد من اللوحات التي ستكون ذات خطوة كبيرة لدى الهواة والنقاد، فإن ماتيس كان قام قبل ذلك بست سنوات على الأقل برحلة الى الجزائر، لم تستغرق تلك المرة سوى اسبوعين ونيف، كما انه لم يرسم خلال تلك الفترة أية لوحة. غير ان المهم هنا، في تلك الرحلة الأولى، هو أن ماتيس عرف كيف يختزن ألوان الطبيعة والبشر، ألوان الديكورات والملابس، ليجعل منها لاحقاً عناصر أساسية في تكوين عمله الفني. ومن هنا ما يقال عادة في أوساط الدارسين من ان تلك الرحلة القصيرة الى الجزائر ضاهت في أهميتها التأسيسية كل رحلاته المغربية. أما لماذا لم يرسم بيكاسو شيئاً، باستثناء بعض الاسكتشات السريعة، خلال تلك الرحلة التي قادته خصوصاً الى منطقة بسكرا، فسؤال أجاب عنه بنفسه حين قال ان "المرء يتعين عليه أن يقيم سنوات طويلة في تلك المناطق الغنية، حتى يقيّض له أن يكتشف أشياء جديدة". بيد أن ذاكرة ماتيس حلت لديه، محل تلك السنوات الطويلة، إذ راح ذهنه يسجل كل لون وكل تفصيل وكل تبدل في الديكور والمناخ، ما جعله لاحقاً حين عاد الى كوليور، في الجنوب الفرنسي، حيث كان يقيم آنذاك، يستعيد كل تلك التفاصيل ليدمجها في أعماله التي راح يرسمها. ولافت هنا أن المناخ المعبر عن تلك المنطقة الجزائرية الخلابة، لم يظهر في أول لوحة كبيرة رسمها فور عودته، وإن كان كثر ادعوا ذلك، وهي لوحة "عارية باللون الأزرق"، بل ظهر متأخراً ثلاث سنوات في لوحته "امرأة جزائرية". صحيح ان "عارية باللون الأزرق" حملت بعض مناخ الواحة الجزائرية، ولكن في خلفية الديكور فقط، من خلال بضع شجرات نخيل واطئة، ارتمت امامها المرأة التي، اذا استثنينا وضوح الخطوط التي رسمت اطار جسدها، ليس فيها من الجزائر شيء. الحس الجزائري كان يتعين إذاً، انتظار ثلاث سنوات أخرى قبل ظهوره في تلك اللوحة: "المرأة الجزائرية". رسم هنري ماتيس "المرأة الجزائرية" عام 1909، وهي لوحة متوسطة الحجم يصل ارتفاعها الى 81 سنتيمتراً، وعرضها الى 66 سم. وهي معلقة الآن في المتحف القومي للفن الحديث في مركز جورج بومبيدو الثقافي في باريس. والحال ان هذه اللوحة - لا "عارية باللونة الأزرق"، كما اعتاد الباحثون ان يقولوا - هي التي مهدت لتلك السلسلة من اللوحات التي رسمها ماتيس لاحقاً، تعبيراً عن رحلته المغربية وتصويراً لها. ف"المرأة الجزائرية" تبدو شديدة القرب من اللوحات المغربية، مع فارق أساس يكمن في أن ماتيس كان خلال تلك المرحلة اهتم بالتركيز على العنصر البشري في لوحاته، وذلك بالتناقض مع اللوحات المغربية، حيث عنصر الديكور والأجواء العامة هو الطاغي... بل حيث لا يشكل البشر النساء بخاصة حين يوجدون في اللوحة سوى جزء من الديكور الغرائبي، بحيث يختلط الجسد بالديكور في وحدة يغلب عليها الطابع التزييني. أما في لوحة "المرأة الجزائرية"، فالأمر مختلف تماماً. ولعل ماتيس كان، هو نفسه، خير معبر عن أهمية العنصر البشري في تلك اللوحة - وفي أعمال أخرى له - حين كتب يقول: "ان الموديلات التي يحب أن يرسمها هنا هي قبل أي شيء آخر كائنات بشرية من لحم ودم، وليست مجرد ديكورات اضافية ملحقة بالمشاهد الداخلية. وهذه الكائنات البشرية هي، بالتحديد، الموضوع الأساس لعملي. ان اشكالها قد لا تكون متكاملة، غير انها وبكل تأكيد كائنات دائمة التعبير. أما الأهمية العاطفية التي يوقظنها لدي، فإنها قد لا تكون في الضرورة في حاجة الى ان تكون مرئية عبر اسلوب تصوير أجسادها. في أكثر الأحيان يمكن هذه الأهمية ان تظهر عبر خطوط وألوان تنتشر موزعة على مساحة اللوحة كلها...". والحقيقة ان لوحة "المرأة الجزائرية" تعبر خير تعبير عما يقوله هنري ماتيس هنا. صحيح ان التعبير هو، وقبل أي شيء آخر، يشغل مركز اللوحة، من خلال تعابير وجه المرأة المرسومة، وكذلك من خلال حركة كفيها، اللتين تبدوان على تناسق تام، مع انصراف النظرة الى البعيد... غير ان كل شيء في هذه اللوحة، من ألوان الخلفية، الى الجزء البارز، جانبياً، من النافذة، الى ثياب السيدة، وانحسار قبة الرداء عن أعلى جسدها... كل هذا يأتي هنا متكاملاً ليعزز تعبير النظرة، مؤكداً، من ناحية مركزية الكائن البشري في هذه اللوحة، ومن ناحية ثانية انتشار الحس التعبيري المناط بالسيدة، على مدى اللوحة ككل. غير ان هذا البعد، "المشرقي" و"البشري" في هذه اللوحة، يجب ألا يمنعنا من أن نرى فيها تأثيراً آخر، يبدو أيضاً شديد الأهمية في عمل ماتيس. ففي السنوات التي فصلت بين زيارة ماتيس الى الجزائر، ورسمه ل"المرأة الجزائرية"، كان الفنان اطلع عن كثب على جديد ما راح يقدمه الفن التعبيري الألماني خلال تلك المرحلة الانعطافية من تاريخه، ولا سيما من خلال الارتباط "التعبيري" بين الكائن البشري الذي يشكل مركزية اللوحة، وبين الديكور المحيط به، وكل هذا - أيضاً - يبدو واضحاً في هذه اللوحة حيث التعبير مركّز ومنتشر، جوّاني وبرّاني، في الوقت نفسه وهو ما سيلاحظ لاحقاً بقوة حتى في السينما الألمانية التعبيرية، حيث سيصبح الديكور - كما في "عيادة الدكتور كاليغاري" مثلاً - ديكوراً وتعبيراً سيكولوجياً جوانياً في الوقت نفسه. وعلى هذا يكون هنري ماتيس وإن في بعد تلويني كان جديداً في ذلك الحين، لكنه سيصبح قاعدة فور ذلك، قد أقام الربط الحاسم بين شتى أجزاء اللوحة، من دون أن يكون الربط تزيينياً وحسب. ونعرف في هذا السياق ان اثنين على الأقل من كبار رسامي التعبيرية الألمانية - أو لنقل: من بين المازجين بين التعبيرية التي كانت تعيش أولى لحظات مجدها الكبير، وبين اسلوب "الضواري" الذي كان ماتيس زعيمه المطلق حتى ذلك الحين -، وهما ارنست لودفيغ كيرشنر، واريك هيكل، سرعان ما راحا يحاكيان تعبيرية ماتيس في هذه اللوحة بالذات، ليحققا عبر تلك المحاكاة بعض أهم أعمالهما... هما اللذان أضفيا حيوية مفاجئة على تلوينهما، كما اشتغلا على خطوط واضحة - غالباً بالأسود - وعلى استخدام الزاوية الحادة في التعبير. طبعاً لم يواصل ماتيس ذلك الخط الذي طويلاً ما كان دافع عنه خلال تلك المرحلة من حياته، بل انه، خلال النصف الثاني من حياته ومساره الفني، نهج على ذلك تماماً، وراح يركز على الجانب التزييني في اللوحة، غير ان هذا لم ينقص من قيمته، بل ظل في حالاته كلها واحداً من كبار فناني الثلث الأخير من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. فهنري ماتيس 1869 - 1954 عاش كل ذلك الزمن كما عاش تقلباته، وأثر في عدد كبير من التيارات الفنية، منذ بداياته - التي بدت متأخرة بعض الشيء - وحتى سنواته الأخيرة، بما في ذلك تيار "ما بعد الانطباعية" و"الضواري" ثم بدايات التكعيبية حيث بدا بيكاسو متأثراً به، لكنه - أي بيكاسو - سرعان ما تجاوزه ليحل مكانه زعيماً مطلقاً لحركة الفن الحديث خلال القرن العشرين كله. وعلى هذا كان ماتيس، بدوره وفي شكل ما، فناناً آخر وقع ضحية شهرة بيكاسو وحيويته.