لطالما كانت المرأة موضوعاً أثيراً للفنان التشكيلي اللبناني حسين ماضي، في مختلف مراحله واختباراته وتقنياته المتنوعة، سواء في الرسم أو الحفر أو النحت، حتى لا يكاد يخلو معرض من حضورها وأثرها، وكأنها ثمرة التجارب كلها والموتيف الأجمل والأكثر إلهاماً وثباتاً بين كل المتغيرات. والمعرض الذي يقيمه في غاليري عايدة شرفان ساحة النجمة - بيروت لنتاجه الأخير، ما هو إلا تكريم للمرأة واحتفاء بها. في قرابة ثلاثين عملاً فنياً رسوم حبر ومنحوتات من حديد ولوحات أكريليك، يعلن حسين ماضي عن مدى شغفه بالمرأة الى حدود الهيام بوجهها وقامتها وزيّها، ملماً بتفاصيل لباسها من الرأس إلى الحذاء ذي الكعب العالي، مفتوناً بخصلات شعرها المتطايرة على جبينها وطلاء أظافرها. إنها المرأة بطابعها الوجودي والشكلاني - الزخرفي والشهواني الحار، بكل ما يعني ذلك من إحاطة بالمكان الذي تشغله بكليته. فالمكان حميم ودافئ ومأهول بقطع أثاث مزخرفة على الطراز الشرقي، وقلما يخلو من باقات أزهار دوار الشمس الصفراء، التي تلوح أمام ناظرينا كي تذكرنا بمثيلاتها في أعمال فان غوغ. حسين ماضي متحرر في كل ما يرغب فيه، بعيد من الرقابة الذاتية. في توحشه اللوني غليان وقفز فوق سطح القماش وتوغل وانبثاق. يرسم ليتلذذ بالألوان ويلعب بالأشكال، باعثاً الغلواء التي تنسجم مع طاقاته وجموحه في التعبير. فهو لا يختزل بمقدار ما يسرف في الإضافة والتنميق والتزيين. وإزاء تلك الواقعية المُلزمة تتراجع النزعة الاختبارية كي تسلِّم مفاتيحها الى القيم اللونية والزخرفية، كما تنحسر المخيلة الاختزالية المتحررة التي طالما شكلت أسلوب حسين ماضي، أمام مشاهدات العين التي تصف الأشياء بتفاصيلها. وما نسوقه في صدد معروضاته من اللوحات يختلف عن معالجته للموضوع نفسه في منحوتاته الحديد، التي تحافظ على بنيتها المعهودة في التجزئة الهندسية للسطوح والكتل ما بعد التكعيبية التحليلية. فالمرأة في لوحاته تنبثق من داخل حال مشهدية نهائية لا تذهب بالعين إلى أبعد من واقعيتها المباشرة، وإن كانت هذه الواقعية تنطوي على حقائق بصرية حية وملموسة مستقاة من طبيعة المكان وجلسات الموديل، لكنها تنطوي بالقدر نفسه على الكثير من التصرّف والتّدبر والتفكّر، ناهيك عن الأسلبة التي تبعث على التناغم والاتساق. درج حسين ماضي في العقد الأخير من إنتاجه الفني على مخاطبة محيط عيشه، رادماً الهوة بين الحياة اليومية داخل محترفه وبين الفن، بل أضحى عالم المحترف بمحتوياته من البلاط الى الجدران والأرائك والوسائد المزركشة وقطع الأثاث والنوافذ المشرفة على حديقة الجامعة الأميركية وبحر بيروت، مناخاً فنياً بحد ذاته يستقطب القاصدين. ومن داخل هذا التجذر المكاني، الذي أضحى ذاكرة بصرية ملونة بالحكايات والتفاصيل، يفتح حسين ماضي ذراعيه للحياة ولشغف العيش محاطاً بالعناصر والإكسسوارات التي يحبها ويأنس اليها في وحدته، حيث لا يساوره قلق إلا القلق الفني في استجلاب الموضوعات ومن ثم صراعه مع الألوان المتوحشة التي يروضها. غرافيكي وملوّن بشراسة قلّ نظيرها. فألوانه نظيفة وجلية متعارضة ومشبّعة تنم عن مراس في اختبار أمزجة الألوان وتأثيراتها البصرية. وتظل عينه متيقظه متهيبة تراقب المرأة وتلتقطها في مختلف حركاتها وأوضاعها حتى أثناء نومها، غير أن النوم يبدو خادعاً لفرط لمعان الأصفر المتراقص في قميصها المزهّر. ونساء حجراته تحت ضوء النهار الباهر يقفن أو يجلسن في حالات شبه استعراضية تتيح فهم المفارقات الخطية والعلاقات اللونية في تضادها القوي او تناغماتها الخفية. تبدو المرأة تقليدية سطحية حين تتوسط الحجرة الى جانب آلة العود الظاهرة كقطعة إكسسوار. وتظهر جامحة ومسيطرة في صيغة استعارية حين تقوم بترويض حصان بري، لكنها في معظم الأحوال هي المرأة القدرية والمغناج والمثيرة، لكأنها سلة فاكهة أو شيء للعرض أو موضوع للاستهلاك او للزينة، تسيطر على أوقات فراغها حالات الملل والانتظار. وتظهر في مكان آخر وهي تطالع صحيفة، واللافت أن في طيات هذه الصحيفة، صورة لوحة لماضي وخَبر عن معرضه الحالي، في انعكاس مباشر لذاتية الفنان، فضلاً عن إشارات أخرى هي ما بين الجهر والتبيان والتلميح، لكأنها إمضاء جديد يحيل دوماً اليه، بل الى صنيعه الفني.