عاش مغموراً، ورحل بصمت كلي. اختار عزلته في مكتبه الصغير ذي الأمتار القليلة في"المجمع الثقافي"أولاً ثم في"هيئة أبو ظبي للثقافة والفنون"التي تشكلت لاحقاً حاملةً إرث الاسم السابق ومحدثةً سبل وطرائق عمل تتناسب مع عصر وجيلٍ جديدين. وحده صلاح صلاح أبو جميل المترجم والكاتب والناقد السينمائي ظل جالساً في الحجرة الضيقة محاطاً بمئات الكتب المصفوفة على رفوف خشبية، وهي التي أيقظت هواجس مفزعة عنده، كان يحدثني عنها باستمرار: إلى أين؟كان يقول، ليس أنا وعائلتي، بل وكتبي أيضاً التي لا أعرف إلى أي مصير تنتهي؟ صلاح صلاح، كاتب فلسطيني هاجر إلى أبو ظبي عام 1967 آتياً من رام الله، مودعاً مكتبة صغيرة كان يمتلكها أهله على طرف أحد شوارع المدينة، حاملاً شهادته الجامعية ليعمل مدرساً للغة الإنكليزية في إحدى المدارس الحكومية، قال: حين وصلت الى أبو ظبي التي لم تكن بعدُ تنعم بخيرات النفط، وكان معظم المدرسين يسكنون جماعات، في أكواخ من الزنك، أخذني عمي إلى شاطئ البحر ليعرِّفني الى أحوال المكان، أردف: المباني الشامخة لم تكن تعالت بعد، والأبراج التي تراها من نافذتي الصغيرة قامت على أنقاض بيوت طينية متناثرة كان المدّ يهاجمها ويفتك بها في كثيرٍ من الأحيان. عمي ركَلَ بقدمه علبة تنك صغيرة كان الموج قذفها على الرمال. كانت العلبة صدئة ومهترئة ومتآكلة، وبعد أن فعل ذلك تطلع إليَّ محدقاً فيَّ بنظرة ثابتة، هامساً:"أخشى أنك ستبقى هنا عقوداً حتى ينتهي بك الأمر مثل هذه العلبة".صلاح صلاح لم يفهم إشارة عمه، المتوهم أن كارثة حزيران يونيو التي أدت في ما أدت، إلى خروجه الأول، كان يراهن على جمع مبلغٍ من المال يستطيع به إنشاء مكتبة في رام الله، وكان يتخيل ? كما أكد لي مراراً - أن غربته لن تطول، وأن الأمر لا يتعدى سنوات قليلة تكون الأرض فيها قد تحررت، وهوَ، سيعود إلى رام الله لاستكمال مشروعه الثقافي. هجرته امتدت إلى واحد وأربعين سنة، معظم سكان رام الله الأصليون غادروا، خريطة البلد تغيرت كما نقل إلي،"وأنا لا أعرف إلى أي اتجاه سيكون خروجي المقبل". مهنة التدريس أتاحت له فرصة أن يكون معلماً لشبان تبوأوا مراكز رفيعة بعد ذلك، لكنه كان شغوفاً بالكتابة والقراءة، مصرّاً على أن يبقى في الظل، من دون الانخراط في الدنيا الجديدة والنهوض الكبير الذي بدأت تعيشه عاصمة الإمارات العربية المتحدة منتظراً، فرصة العودة إلى الوطن، وأي وطن؟ لكن حسه السينمائي وعشقه للفن السابع قاده إلى إقناع بعض أصدقائه النافذين بالسعي الى تأسيس أول"نادي سينمائي"في العاصمة وهي محاولة احتاجت إلى كثيرٍ من الصبر بينما كانت هناك صالة عرض سينمائية وحيدة معظم أفلامها هندية. نجحت التجربة في إزالة"التابو"عن السينما وفتحت أبواباً واسعة لولوج عوالم جديدة في هذا المضمار. وقد ساهم الراحل في شكل رئيس في إصدار مجلة"سينما"وكانت تجربة تمتاز بالشجاعة والإقدام في منطقة لم تقم فيها صناعة سينما بعد، فيما أتاح له تحوُّله من مهنة التدريس إلى احتراف الترجمة وانضمامه إلى أسرة" المجمع الثقافي"فرصة التعبير عن طاقاته الكامنة، وذلك بعد أن أقام سنتين في باريس بعد 1990، أتاحا له التعرّف الى شخصيات مهتمة بالسينما والثقافة والكتابة، والتواصل مع كثير من هذه الرموز بعد عودته إلى أحضان"المجمّع"، فتمت دعوة الفنان مارسيل خليفة ليقيم أكثر من حفلٍ في المكان، وينفذ أعمالاً مشتركة مع الشاعر محمد أحمد السويدي الأمين العام ل"المجمع الثقافي"آنذاك. أقيم أسبوع لأفلام السينمائي ميشيل خليفي الفلسطيني الأصل، المقيم في بروكسل، الذي ربطته صداقة مع صلاح. وكان من السهل ملاحظة كم تعج غرفته الضيقة بمبدعين من مختلف الجنسيات العربية كانت تربطهم علاقات به، هو الذي نأى بنفسه عن أي بروز اجتماعي أو أجواء ديكورية.توقفت مجلة"سينما"بعد صدور أعداد عدة منها، فساهم في إنشاء مسابقة"أفلام من الإمارات"التي تطورت من فكرة فيلم قصير مأخوذ بكاميرا فيديو وصولاً إلى أسابيع سينمائية دولية ينظمها"المجمع الثقافي"... إلى أن بدأ عصر افتتاح صالات أنيقة وفخمة للسينما في عموم الإمارات بعد أن صحا الوعي بأهمية السينما في الدولة.صلاح صلاح الباحث عن وطن، القلق والخائف مما قد يحدث له متقاعداً بعد الستين، المتسائل عن الهم المضاعف كونه فلسطينياً غير مسموح له بالعودة إلى بلدته، وغير المنضوي تحت راية أي منظمة أو مؤسسة، على رغم لوعته على شقيقه - جميل - الذي أدى به انفجار بينما كان مرافقاً ل"أبو حسن سلامة"في بيروت بدأ يحس بحيرةٍ عجيبة في الآونة الأخيرة، مشككاً بجدوى النزاهة والانكباب والمواظبة على العمل التي لا طائل منها. لكن ذلك الفعل الجماعي الذي ساهم به لم يوقف مسيرة عطائه الذاتي حيث نشر له عام 1998 رواية"سيدة البحر"ثم ترجم "في مديح زوجة الأب"لماريو فارغاس يوسا عام 1999، و"مديح النساء الأكبر سناً"لستيفان فيزنتشي عام 2002 ليتبعها ب"الأنامل النحيلة"في 2003، ومن"شعر البشتون"الذي تضمن ترجمة لقصائد غاية في الجرأة، لنساء من أفغانستان. وكان كتاب"يوميات دراجة نارية"الذي ترجمه صدر عن دار السويدي للنشر عام 2005 وكتبته أليدا غيفارا مارنش ابنة غيفارا وقد قدم له محمد السويدي قائلاً:"رحلة غيفارا في أميركا اللاتينية تكشف مبكراً عن شخصيته الفريدة كحالم وثائر وصاحب قضية إنسانية". ليس هناك فهرس كامل لما ترجم وأنتج هذا الكاتب الفلسطيني. لكن صلاح صلاح لم يحمل جواز سفر فلسطيني يمكّنه من العبور إلى الضفة الأخرى. وهكذا جرى قبل شهرين دفنه بصمت في مقبرة في الصحراء من دون أن يتحقق حلمه ببيت ومكتبة في رام الله.