على رغم أنّ حزب الله لم يستطع - حتى الآن على الأقل - أن يستثمر أعماله العنيفة في سياق سياسيّ، إلاّ أنّه حقق نصرا عسكريا ساحقا على اللبنانيين الذين يختلفون عنه في المنطق والرؤيا، ومكّن جمهوره من السخرية ممّن أخليت مكاتبهم ومقراتهم بقوة السلاح، وبدا للمتمعنين في المشهد من محازبي المعارضة وأنصارهم قبل خصومهم والمحايدين، أنّ الشماتة التي عبرت عنها جماهير حزب الله بالرصاص والسيارات المحملة بالمشجعين، كانت حاجة سيكولوجية ضغطت على حاضنته الاجتماعية بقوّة لأسباب عديدة"لعلّ أبرزها تراكم الوعود بالنصر، وغيابُ انتصار واحد على مدى سنتين متتابعتين، وبالتحديد منذ استطاع إقناع مؤيديه بأنّهم حققوا النصر الإلهي المبين على إسرائيل، وهي مدّة لم يعتد الحزب المظفّر أن يتحمّلها ويحمّل أنصاره وجماهيره مشاقّها. يستحق الذكرَ هنا، أنّ حزب الله قد حقق على امتداد عامين متأزمين تفوقا لافتا في ليّ حقيقة انكفائه بعيدا عن الحدود اللبنانية الإسرائيلية، فحوّل هذا الانكفاءَ ببراعة مشهودة إلى نجاح عسكري بارز، وأقنع محازبيه وأنصاره الأبعد عن دوائر القرار فيه، أنّ نشر الجيش اللبناني في الجنوب إنجاز عسكري وسياسي، أتاحه انتصاره الإلهي على إسرائيل، في تجاهل مبرمج وحاذق للرفض القاطع والمعلَّل، الذي طالما أبداه الحزب لفكرة نشر الجيش هناك، وفي تنصّل لافت وكفء من التفسيرات الذكية التي كان يقدمها في المحاججة، عندما كان يشدد على أنّ رفض دخول الجيش اللبناني إلى الجنوب، مبعثُه القلق عليه من مغبة التموضع العسكري على أرض الجنوب التي تستهدفها الاعتداءات الإسرائيلية"بوصفه هيكلا عسكريا رسميّا ليس بمقدوره مواجهة الإسرائيلي، ولن يكون إلا جسدا مستباحا لإسرائيل تضربه ساعة تشاء، دون أن يكون بمقدوره الرد أو الصمود، وإسرائيل ? على ذمة تلك التفسيرات- لا يمكن مقاومتها إلا بمجموعات غير رسمية مدربة على حروب العصابات، وعلى الرغم من أنّ الحزب استأصل بنفسه غيرَه من المجموعات التي كانت تتمتع بالمواصفات العِصابية نفسها، مقاوما بلاهوادة ولعها بالمقاومة، ورافضا تواجدها على امتداد مسارحه القتالية، عبر توجيه شتى التهم إليها، أو السخرية منها وتسخيف إمكاناتها، أو تحريض قوى إقليمية حليفة عليها"لكبحها أو شطبها، أو دفعها إلى الانتشار بعيدا"فإنّه لم يتورع مع حلفائه الإقليميين، عن جني الغلال السياسية لهذا التغييب فحسب، بل ذهب بعيدا في استثمار المنافع الملموسة لإعادة التموضع خارج المنطقة الحدودية أيضا، دون تساهل أو تعفف. من جهة ثانية، فإن الديماغوجية ذاتها التي اعتمدها حزب الله في تسويق"نصر"2006 على إسرائيل، مكنته على نحو لم يتوقعه أشد المتفائلين بقدراتها على رسم الخلاصات الافتراضية المعلّبة، من تقديم سياق برهن عبره أنّ استقدامَ قوات أجنبية للتأكد من عدم تسلل عناصر الحزب إلى جنوب الليطاني لتهديد الأمن الإسرائيلي بُعيد انقشاع الحرب، ليست إلا دليلا ساطعا على انتصار إلهيّ مؤزر! فهذه القوات المعززة لم تنتشر لتمنعه من المقاومة، ولا يمكنها ذلك أصلا، فقد أرسلها المجتمع الدولي صاغرا ليجعل منها سدّا بين إسرائيل وأطماعها! والفضل دوما للهزيمة النكراء التي لحقت بالجيش الإسرائيليّ! بل إنّ بعض كوادر الحزب الأقدر على التحليل الافتراضيّ، لم يتورعوا عن حسبان اليونيفيل المعززة ثمرة لم يكن لقطافها من سبيل لولا الانتصار العزيز لحزب الله! ولكنّ البيّن الذي تدحضه المشاهد المتلاحقة، أنّ انتصار اليوم لا يحتاج إلى تأويل أو تلاعب بالحقائق، ولن يكلف جهودا ومناورات وابتكارات لفظية، فما أسهل إقناع أي مشكك، ممن لم يشارك في الهجوم العسكري المظفر على بيروت، من المهللين والمتشفين بضحاياه، بأنّ الهزيمة قد لحقت بالخصوم حقّا، عبر تصويرهم مغادرين آسفين مقراتهم الحزبية. والشماتةُ في لبنان ليست جرما مستجدا أو حدثا طارئا، وإنما هي حدث مكرور تردّى مفعوله منذ أواسط سنيّ الحرب الأهلية اللبنانية، فقد تبدل، وتلون، وتقلب بين المتحاربين، حتى أصبح سيركاً يثير من الشفقة أضعاف ما يثير من الارتياح، كما أنّ انقلاب السحر على الساحر ومقصلة روبسبيير، أضحت مشاهد مقيتةً ومألوفةً ملّها متابعو التاريخ اللبناني العاصف بالأحداث وتبادل المقاعد وكرنفالات الانتصارات الإلهية والأرضية حتى مجّوها. ولعله من المؤسف للبعض التأكيدُ مجدداً أنّ انتصار اليوم أصغرُ من أن يلتمسه الباحثون في التاريخ العسكريّ، بعدما تبين بوضوح أنّ المهزومين لم يمتلكوا أكثر من أسلحة فردية أُعدت للحماية والاحتماء لا للغزو، وظهر جليا انّه لم تتوفر لجنود تيار المستقبل، أو لعناصر الحزب التقدمي الاشتراكي، من حصص التدريب والإعداد القتاليّ، في أعلى حالات التصديق أنّهم أخضعوا لتدريبات عسكرية مبرمجة ومكثفة، شيئا يستحق الذكر، ليستحقّ المقارنة مع الواقع العسكريّ لحزب الله، فلا الاشتباكات التي شهدها لبنان على امتداد أيامه المايوية الصعبة تشير إلى صدقية في ذرائع التسليح، ولا حصار رجُلَي الرابع عشر من آذار البارزين في منزليهما، بعد ساعات من اندلاع القتال، يمكنه أن يشي بأدنى إعداد ميليشياوي سابق! على العكس، فإنّ المُعطى الملموس لغزوة بيروت التي انتصر فيها حزب الله على الأرض تجسد في التأكيد على وحدانيته في امتلاك السلاح، وإثبات أنّه الميليشيا الوحيدة التي بقيت في لبنان، وهو كشف سيترك آثاره العميقة في المستقبل اللبناني، وسيغدو هذا المُعطى معطوفا على المعاني المؤثرة، والخسائر الموصوفة التي ستلحق بحزب الله، الذي لم يكتف هذه المرة بالتهويل والتهديد بسلاحه، بل جاوز إلى استخدامه في المعادلة السياسية الداخلية، سيغدو الرصيدَ السياسيَّ الأهم الذي قد يهدد بالإطاحة بمعادلة اللاغالب واللامغلوب اللبنانية برمتها. ومع ذلك فالأزمة لم تنفرج بعد، والجهود العربية لا تعد بالكثير، واحتمالات التصعيد تطرح نفسها بلا شبهات كثيرة، ويستبعد الواقعُ اللبنانيُّ الذي يكرر للمرة الألف ربما ارتباطه بالأوضاع الإقليمية حدوثَ انفراج قريب، فالخطرُ الشماليّ مفزع، واحتمالاتُ التهاوي المؤقت للاعتدال السنّي تحت سنابك التطرّف والسلفية المتشددة ماثلٌ يغذّيه حرص حزب الله على إبقاء الوضع مستنفرا ومكشوفا، ويعجّل به بمحمومية متهورة انتظارُه العُصابيّ للحصاد السياسي، والعيونُ الإسرائيليةُ التي تراقب باهتمام وجهوزية أكدتها مناوراتها العسكرية على الحدود اللبنانية قبل شهر، قد لا تكون معنية بتوفير الوقت لأحد، فمصائب حكومتها لا تتوقف، وحاكمها أولمرت يتمعن في المشهد اللبنانيّ بوصفه فرصة الفرص للنفاذ بجلده من تداعيات تحقيقات الفساد، والحكومةُ اللبنانيةُ لا تستطيع تثليج الأوضاع أمدا أطول، انتظارا لإقرار حزب الله بورطته وإبدائه التراجع والندم، ولا يملك الحزبُ بدوره من الثبات النفسي والاجتماعي والاستراتيجي ما يمكنه من البقاء طويلا مصوبا فوهات بنادقه إلى أصداغ اللبنانيين، ومهما قيل عن تحمّل محاربيه حربين في وقت واحد فإنّ الاستخفاف بالخطر الإسرائيلي إلى هذا الحد يتجاوز كونه تصورات خاطئة حتما، إلى إثارة الشكوك الجنوبية خصوصا، واللبنانية عموما، بأنّ الحزب الإلهي قد يغرق في بحر مغامرته اللبنانية، ويذهب بعيدا في احتمالات تخليه عن دوره المقاوم الذي حمله لأسباب لبنانية وغير لبنانية، خمسا وعشرين سنة متصلة. والساعات تمضي ثقيلةً، وغيرَ مضبوطة في عصبيتها وضيقها، واحتمالاتها المفتوحة على عرقنة أو صوملة تطيح بالدولة وحزبها المقاوم"قد تدفعه إلى الانكفاء أبعد كثيراً من بوصة واحدة عن شمال الليطاني. والفرسانُ الذين يدأبون على التشديد على أنهم حرروا الجنوباللبناني من الاحتلال الإسرائيلي قبل ثمانية أعوام، عندما انسحبت القوات الإسرائيلية منه، يتوهجون اليوم على نحو متناقض عجيب، الأمر الذي يطرح الكثير من علامات الاستفهام حول حقيقة إنجازاتهم على مسرح الصراع العربي الإسرائيلي، فعلى الرغم من أنّ ملف إنجازات حزب الله، بقي لسنوات بمنأى عن المناقشة والجدال، وغدا بديهيات يتناولها الباحثون بالوفير من الاحترام والتقديس، وبالنزر اليسير من التشكيكات التي شحّت، حتى انعدمت، إلاّ أنّ مرأى كرنفالات أفراحه اليومَ، قد يعيد فتحَ هذه الملفات على نحو لم يكن يمكن أن يتاح لأحد، لولا اعتدادُ حزب الله بما حققه من نصر على أبناء العمومة من اللبنانيين. فهذه المغامرة قد تتسبب بإعادة قراءة هذه الملفات بدقة أرهف، وتشكيك أشمل، وبعدائية لن يستغربها عاقل. ما أخطر فتح ملفات حزب الله، وما أصعب الكابوس الذي يقضّ مضجعه مع كل ثانية تمرّ دون أن يغادر الشوارع اللبنانية إلى مخابئه الحصينة. أليس الهروبُ خلفاً أسهلَ على حزب يملك تاريخاً مديداً من الدم والبطولات المشهودة، من أن يجد البعضُ اليومَ نفسه مندفعا إلى التساؤل صارخاً ببراءة، أو مستصرخاً بمكر: ألم تكن إسرائيل إلا مطيةً، وذريعةً، وقناعاً؟! * كاتب سوري