في الغرب، من المألوف الحديث عن "بدو المُدُن الحديثة". إنهم تلك الفئات التي يتميّز نمط حياتها اليومية باعتماده على كثرة التحرك والانتقال وعبور الحدود الفاصلة بين المُدُن والمقاطعات والولايات والدول. أولئك"البدو"هم من يديرون مصالح اقتصادية واجتماعية وثقافية ضخمة، ويلازم عيشهم ضرورة الاستخدام المُكثّف لوسائل الانتقال السريعة مثل السيارة والطائرة والباخرة. ولا يكفون عن تطلب السرعة في الاتصال، وتكاد لا تتوقف أيديهم عن التعامل مع وسائط الاتصال الأكثر تطوراً مثل البريد وبرقياته وقبله جهاز"المورس" والتلفون والفاكس الذي ورث جهاز"التيكرز" والخليوي والانترنت. والارجح أن النموذج الأوضح عنهم هو رجال الأعمال المتنقلون ذهاباً وجيئة عبر الدول، والذين تناسلت أجيالهم المتحركة منذ أزمنة الثورة الصناعية ومابعدها، وخصوصاً أزمنة امتداد الأسواق على امتداد الكرة الأرضية واتصالها على مدار الساعة. قادت تلك"القبائل الميكانيكية"العولمة، وتطلبت من صناعة المعلوماتية والاتصالات إمدادها بوسائل اتصال وحوسبة، تتنقل معاً بسهولة"وتصلهم بمكاتبهم وأعمالهم في حلّها وترحالها. والأرجح أن أولئك"البدو الالكترونيين"صاغوا الانترنت على صورتهم ومثالهم. وغازلتهم صناعة ال"هاي تيك"، فأنطلقت في مسار من تسارع الاندماج بين الخليوي والكومبيوتر والفاكس وكذلك الكاميرا والتلفزيون من جهة، وشبكة الانترنت وما يتفرع عنها من شبكات رقمية من الجهة الأخرى. ألفت بيروت أن تساير إيقاع التطور غرباً في مجال الاعمال والتكنولوجيا. واحتضنت أجيالاً من"بدو المُدُن الحديثة"لفترات طويلة. وساهم هؤلاء في إعطاء بيروت قسماً مهماً من طابعها الكوزموبوليتي المميز بين عواصم العرب. بالأحرى، ذلك ما كان حتى زمن قريب. وأدت الحرب الأهلية و"الحروب من أجل الآخرين"باقتباس من كتاب بالفرنسية لرئيس تحرير"النهار" غسان تويني، صدر في ثمانينات القرن الماضي، الى تغيير قوي هذه الصورة. وحملت الأحداث المؤلمة في العاصمة اللبنانية أخيراً، صوراً لقبائل"حديثة"من نوع آخر. فعلى امتداد"خطوط التماس"المتداخلة بين أحياء الانشطار الوطني في بيروت، ظهر فتية على دراجات نارية، ولا يكفون عن الحركة. يرتدون ملابس"كاجوال"يطغى عليها"الجينز"الأميركي، بغض النظر عن الموقع السياسي نقرأ أيضاً: المذهبي والطائفي الذي يجاهرون بالانتماء إليه. حمل بعضهم السلاح ظاهراً، وأخفاه بعضهم الآخر. وظهر الخليوي في أيدي الجميع، لا يكف عن وصلهم بمن يديرهم من بُعْدْ. وبالتأمل المستمر في أرتال هذا"الجيش الميكانيكي"الذي يتلاعب على الحدّ بين المدني والعسكري في المُدُن الحديثة"يمكن ملاحظة أن المُقدّمين بينهم يمتطون دراجات نارية أكبر حجماً مما يسود في أرتال ذلك الجيش، كما تضم عدّتهم كومبيوتراً محمولاً يتصل بالانترنت لاسلكياً"إضافة الى الخليوي. وعاثت تلك"القبائل المرتحلة"في بيروت خراباً. وعملت أرتال"البدو الميكانيكيين والالكترونيين"على تمزيق النسيج الاجتماعي، الذي كان كأنه وتر مشدود الى أقصاه، ينتظر من يضربه لينقطع. لم يكن"بدو المُدُن الحديثة"في بيروت رجال أعمال، بل أرتالاً من مقاتلي الحروب الكارثية.