إعادة إنتاج النصوص آلياً تغيّر الثقافة والفن في الزمن الإلكتروني لماذا تهتم صفحة مخصصة للمعلوماتية والاتصالات بسبعينية مفكر مثل والتر بنجامين قضى قبل ظهور الكومبيوتر الأول «إينياك» ENIAC الذي صُنع في عام 1946؟ ما الذي قاله بنجامين كي يصل الى زمن المعلوماتية باعتباره فكراً طرياً وطازجاً؟ ما أهمية كتاب مثل «صنع الفن في زمن الإنتاج الميكانيكي» حاضراً؟ لنجرب التفكير في الأمر انطلاقاً من ميزة أساسية في الكومبيوتر والانترنت وهي القدرة على إعادة إنتاج المعرفة (النصوص، الصور، الأفلام، الموسيقى، الأصوات...) بطريقة آلية مؤتمتة. في التقنية الرقمية، يكفي أن تصنع عملاً وحيداً، كي يصار الى إعادة إنتاجه ما لا يحصى من المرات، بصورة آلية مؤتمتة. مثلاً، تصنع مواقع الانترنت وموادها مرة وحيدة على سيرفر (خادم) متصل بالإنترنت. كلما دخل قارئ عليها، تصنع له نسخة هي التي يقرأها على كومبيوتره. ينطبق الوصف على موقع وكالة «ناسا» كما على الصفحات الشخصية على «فايسبوك». لنفكر أيضاً في أن عملية إعادة إنتاج المعرفة آلياً لا تعني حصرياً أن تتولى الآلات هذه العملية. فبفضل عمليات القص والنسخ واللصق في الكومبيوتر، تُخرج نصوص (مع ما تحمله من معرفة)، لتدخل في نصوص أخرى، وتأخذ سياقاً آخر، وبالتالي تصبح حاملة لمعرفة مختلفة. لا يقتصر الأمر على الكلمات. ينطبق الأمر على الموسيقى، حيث بات ال «ميكس» فناً منتشراً. يصنع الناس أفلاماً بكاميراتهم الرقمية، ثم يأخذون قطعاً من موسيقى ويولّفونها سوية، فيظهر عمل فني مختلف. كلما زاد تمكن الصانع من التقنية، وكلما ارتقى مستواه فنياً وثقافياً، استطاع استخدام عمليات إعادة الإنتاج آلياً ليصنع أعمالاً فنية راقية. أكثر من ذلك، تؤثر الأدوات التي تستخدم في إنتاج الفن والثقافة والعلوم في تلك الأشياء نفسها. مثلاً، يورد مؤرخ الموسيقى إلياس سحاب في كتاب «الموسيقى العربية في القرن العشرين» أن ظهور الأسطوانات غيّر بنية الأغنية العربية، فانتقلت مما كانته أيام الأداء المباشر من المغني، الى الشكل الذي ظهر على يد سيد درويش وعبد الوهاب وزكريا أحمد وغيرهم. بديهي القول إن هذا الأمر يتصل بنقاشات أساسية في المعلوماتية والاتصالات مثل الفن الرقمي، حقوق الملكية الفكرية، ومعنى الفن في عصر المعلوماتية والاتصالات. وقد لاحظ بنجامين هذا المنحى مُبكراً، عندما تأمل مسار عملية الإبداع الفني والفكري والثقافي، في تفكير تاريخي متعمق. الروبوت: «إعادة إنتاج» الإنسان آلياً ربما أصبح سبب تذكّر بنجامين أكثر وضوحاً. لنجرب شيئاً آخر. ماذا عن الروبوت؟ أليس صنعه هو عملية إعادة إنتاج للأصل الذي هو الإنسان نفسه؟ ألم يدهش البشر (وغضبوا) لأن روبوتاً استطاع هزيمة بطلهم غاري كاسباروف في الشطرنج (وهي لعبة للذكاء البشري)، فكأنما تغلب المصنوع بإعادة الإنتاج آلياً تفوّق على الأصل بقوة؟ في هذه الحادثة، تحضر أفكار بنجامين أيضاً. وبفضل قدرة الأدوات الرقمية كافة على إعادة إنتاج المعرفة بنصوصها المتنوّعة، يصبح تفكير بنجامين بإنتاج الفن آلياً وكأنه إرهاص فلسفي للكومبيوتر والانترنت. لنتذكر أن الانترنت توصف بداهة بأنها التقنية الأكثر تطوراً في الزمن الراهن لإعادة إنتاج المعارف كافة. لنتأمل ما يفعله جمهور المعلوماتية والاتصالات راهناً. تنتشر ممارسة من نوع صنع الأشرطة المرئية- المسموعة، على نحو ما يشي به النمو الانفجاري لموقع «يوتيوب» الذي وصل عدد زواره الى بليوني شخص يومياً يتركون عليه ملايين الأشرطة. قبل زمن يسير، كان صنع المحتوى المرئي- المسموع حكراً على النخبة الفنية، لكن التقنية مكّنت من صنع هذه الأنواع الفنية آلياً بواسطة الأدوات الرقمية الذكية! هل صار سبب الحديث عن إعادة إنتاج الفن (باعتباره نموذجاً من المعرفة) آلياً أكثر وضوحاً؟ لا بد من توضيح آخر. فمثل كثير من المفكرين، نظر بنجامين الى إعادة إنتاج النصوص باعتبارها إبداعاً، حتى لو جرى ذلك باستخدام الآلات. رأى أن التوسّع في ذلك النوع من الإنتاج للفنون مدخلاً لإعادة النظر في مفهوم الفن، بل مفهوم الجمال والزمان والمكان أيضاً. أليس ذلك ما يتردد عند الحديث عن التغيير الذي أحدثته المعلوماتية في الفنون والعلوم؟ مثلاً، ولّدت الآلات فناً كاملاً قوامه إنتاج الأشرطة المرئية- المسموعة عبر التقنية الثلاثية الأبعاد، خصوصاً في السينما. يصلح نجاح فيلم «أفاتار» مؤشراً الى صعود هذا الفن، ويردف ذلك سيل أفلام الإحياء الثلاثية الأبعاد التي سبقت «أفاتار» وواكبته. وراهناً، تسير السينما الى إنتاج أفلامها بتقنية الكومبيوتر الثلاثية الأبعاد، بطريقة واسعة. وكذلك تنظر هوليوود بقلق الى شاشات الخليوي التي باتت مساحة خاصة تتطلب أن تصنع لها أفلام تختص بها، على غرار ما جرى فعلياً في الألعاب الإلكترونية. رأى مخرج مثل ستيفن سبيلبرغ أن هوليوود ربما وصلت الى مرحلة تنتج الشريط عينه في صيغ مختلفة، كي تتواءم مع الشاشات المتنوّعة التي تنتشر بين أيدي الجمهور. لنتوقف لحظة لالتقاط الأنفاس. في الزمن الحاضر، كلما تحدثنا عن المعرفة بأنواعها (الفن مجرد نموذج)، نجد أننا نتحدث عن التقنية وعن الآلات والأدوات التي باتت جزءاً من نسيج تلك الأشياء، ولم تعد تقنية منفصلة عنها. واستطراداً، فإن هذا جزء من الفارق بين زمني الكومبيوتر والكتاب الذي أنتجته المطبعة. وقد أثّرت المطبعة في النصوص (عبر كونها أداة إنتاجها آلياً)، سواء في شكلها أم في مضمونها. ومن الممكن لجمهور الانترنت أن يجد أهرامات من الكتب عن علاقة المطبعة بزمن الكتاب ومضامينه ومفاهيمه، خصوصاً في الغرب. وفي مثال لافت، صنعت مكتبة الاسكندرية كتاباً عن هذا الأمر، حمل عنوان «وعاء المعرفة». ويشير العنوان الى العلاقة الوطيدة بين المعرفة نفسها ومضامينها ومحمولاتها، والشكل الذي تسكب فيه المعرفة بأنواعها، من النقش على الحجر مروراً بالكتابة على البردى وأوراق النخل، ثم اللفافات والمخطوطات ووصولاً الى المطبعة التي تلتها الانترنت. تحدث بنجامين عن تلك الأشياء كلها، بالأحرى عن مسارها العام، في كتابه الموسوم «الفن في زمن الإنتاج الميكانيكي». واستناداً الى تفكير أرساه بنجامين وآخرين كُثر، بات مألوفاً القول إن زمن الكتاب غير عصر الكومبيوتر، وأن السياسة والثقافة والاقتصاد في عصر الورق والكتب والمنشورات والمطابع، تختلف عن نظيراتها في زمن الكومبيوتر والإنترنت والكومبيوتر والشبكات والخليوي. بعد بنجامين وأمثاله، صار شائعاً القول إن مفهوم العلاقة مع الزمان والمكان والمجتمعات والدول في زمن الانترنت، ليست ما كانته عليه في زمن الكتب والطباعة والأوراق. في ظلال ابن خلدون هل صار سبب استدعاء سبعينية بنجامين الى صفحة متخصصة بالمعلوماتية والاتصالات أكثر سهولة؟ ربما كان مستطاعاً التفكير في خيط ما يربط بنجامين مع العلامة الكبير ابن خلدون. ففي مقدمته الشهيرة، رأى ابن خلدون أن ما يتّخذه الناس من صناعة ووسائل في عيشهم اليومي، يساهم في رسم السياسة والثقافة والعلاقات والقيم. يقال كثيراً أن ابن خلدون كان سبّاقاً في ملاحظة العلاقة بين الوسائل المستخدمة في إنتاج الحياة اليومية، وبين ما تضج به تلك الحياة من سياسة واقتصاد وثقافة وغيرها. لكن السبق ليس هو المهم. أليس أكثر جدوى أن نسأل عن مدى تعميق هذه النظرة الخلدونية في الثقافتين العربية والإسلامية، خصوصاً أن الأزمنة المعاصرة تشهد خطابات مغرقة في الغيبية، لا تهتم بالعيش اليومي وبطرق عيش الناس اليومية، بل تريد «إغراق» هذا اليومي المُعاش بخطاب مقيم في خيالات عن أزمنة بعيدة. لم يعد التفكير السياسي إسلامياً وعربياً، ليهتم بالمعاش واليومي والنابض في لحظات عيش البشر، بل أدار الظهر لكل ذلك ليغرف من نهر خيالي آخر. لنعد الى ابن خلدون. ماذا لو فكرنا في كلماته أثناء النظر الى الأشياء التي تصنع عيش يومنا، مثل الكومبيوتر والشبكات الرقمية وأنواع الاتصالات المتطوّرة والأدوات الذكية وغيرها؟ الأرجح أن تفكيراً كهذا ربما أوصلنا الى... والتر بنجامين. كيف؟ تتعدد سُبُل الربط. أبسطها أن بنجامين رأى أيضاً أن الأدوات التي نستعملها في إنتاج (وإعادة إنتاج) المعرفة بأنواعها، تؤثّر في تلك المعرفة وطرق تفكيرها والأفكار الأساسية التي تستند إليها. ثمة شيء آخر يصعب إغفاله، لكنه ليس مباشراً. ارتكز بنجامين الى تحليل مدرسة اقتصادية ألمانية رصدت تحوّلات المجتمع انطلاقاً من التغيّر في وسائل إنتاج الأشياء والسلع والبضائع، وما يتصل بتلك الوسائل من علاقات. ولم ينقل بنجامين ذلك التحليل بصورة جامدة الى مجال الفكر، بل لاحظ أن الفكر يتغيّر بطريقة مختلفة عن تغيّر وسائل الإنتاج وقواها. ووضعته هذه الملاحظة في مفترق صعب. فهو يأخذ بمسألة العلاقة بين وسائل إنتاج الفكر والمعرفة، وبين ما يحدث من تغيير في هذين الأخيرين. هذا من ناحية. ولكنه يلاحظ أيضاً أن لا تطابق كلياً بين التغيير المادي للإنتاج وأدواته وعلاقاته، وبين طريقة حدوث تغيير ما في التفكير العام وخيالاته وصوره ومضامينه وأذواقه!