يشكِّل الرصيد القيمي والأخلاقي في أي حضارة أو أمّة ما المرتكز الأهم لاستحقاق تلك الحضارة الوجود، ولضمان استمرارها وسيادتها، ولا نكون مبالغين إن قلنا بأن أي حضارة تقوم على غير الأساس الأخلاقي هي حضارة غير واقعيّة وغير طبيعيّة ولا أمل في أن تعمِّر تلك الحضارة طويلاً. وعندما ندرك مركزيّة الأخلاق في حياة الشعوب والأمم سَنَعِي حقيقة وأهمية ذلك المخزون الضخم من النداءات النبويّة التي تدور في فلك"إنّما بُعِثت لأتمم مكارم الأخلاق"، ومكارم الأخلاق تلك هي جملة من المبادئ والقوانين الناظمة للسلوك الإنساني بغية تحقيق معنى الاستخلاف الإلهي لهذا الإنسان على الوجه الأكمل والأتم. ما سبق يؤكّد لنا أنّ هناك ارتباطاً وثيقاً بين طبيعة التصوّر الأخلاقي وطبيعة التصوّر الاعتقادي للإنسان، أو بمعنى أعمق التأكيد على أنّ النظام الأخلاقي بكل مقوماته وخصائصه هو أحد أهم انبثاقات التصور الاعتقادي. ولئن كان التصوّر الاعتقادي يحظى بذاك الأثر البالغ في تشكيل التصوّر القيمي والأخلاقي فإنّ السؤال الذي يتبادر في سياق دراستنا هذه، يدور حول موقف الشريعة الإسلامية من حرمة النفس الإنسانية والبعد الأخلاقي في ذلك الموقف، أو بصيغة أخرى كيف يمكن أن يتجلّى التصور الأخلاقي للشريعة الإسلاميّة من خلال رؤيتها لحرمة النفس الإنسانيّة ومكانتها. إنّ الحديث عن القيم والأخلاق هو حديث عن الإنسان ذاته، وللإنسان في التعاليم الإسلامية منزلة مميّزة، فقد خلق الله الإنسان وجعل منه خليفة في الأرض، ويسّر له كلّ مقوّمات الاستخلاف تكريماً له وتشريفاً، كما سخّر له كلّ ما في الكون من مخلوقات ليتحقّق له معنى التكريم والاستخلاف هذا،"أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ"لقمان:20، وهذا الاستخلاف والتسخير من الله سبحانه وتعالى هو بمنزلة أخبار تَلفت الانتباه إلى مكانة هذا المخلوق الإنسان عند الله، وإلى منزلته وكرامته عنده"وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً"الإسراء:70. ونظراً الى ذلك كانت التشريعات الإلهيّة تُشدّد في المحافظة على النفس الإنسانيّة، وتدعو إلى إحيائها، وتُحَذِّر من الاعتداء عليها، أو التسبّب في زوالها، كما تُشدّد في الدعوة إلى حماية الدم الإنساني، وذلك دونما تقيد بعرق أو بمذهب أو دين، فنجد البيان القرآني قد تحدّث عن ذلك مستخدماً صيغة من صيغ العموم، بأَنْ ذَكَرَ النفس الإنسانيّة بصيغة النكرة مسبوقةً بالاسم الموصول"من"، وكلّ ذلك من الصيغ التي تفيد العموم، كما جاء ذلك بأسلوب تشريعيّ بليغ وشامل لكل صور القتل والتنكيل والاعتداء على الإنسان،"مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً"المائدة:32، يُشير العموم المستفاد من الآية إلى استغراق تحريم القتل ليشمل كلّ الأنفس الإنسانيّة، من دون النظر إلى الفوارق الإيمانيّة أو غير الإيمانيّة، فالأصل حرمة الدم الإنساني وعدم إباحة التعرض له، وهذا ما نصّ عليه عدد من علماء الشريعة عندما ذهبوا إلى أنّ"الأصل في الدماء أنْ تكون محقونة". ولم يقتصر البيان الإلهي على هذا النص المُشَرِّع لحماية الدم الإنساني وصيانته، بل توالت النصوص القرآنيّة الخاصّة بهذا الشأن، والتي شرَّعت لحفظ النفس الإنسانيّة من أيّ اعتداء، كضرورة من الضرورات الخمس وكمقصد من المقاصد الإسلاميّة الكليّة، فكانت المحافظة على النفس وحمايتها من أيّ اعتداء خُلُق إسلاميّ رفيع ومدعوّ إليه، ومقصد تسعى الشريعة إلى تحقيقه، وتكون المحافظة عليها حسب الشاطبي بأمرين: أحدهما: تأمين كلّ ما يُقيم أركانها ويثبّت قواعدها، وذلك مراعاةً لجانب الوجود، والثاني: متعلّق بما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقّع فيها، وذلك مراعاةً لجانب العدم، وهذا يعني أنّ هدر الدماء المصانة والآمنة، وكثرة الهرج أو القتل، وممارسة الأعمال المؤدّية إلى استهداف النفس الإنسانيّة المعصومة، هو من الأعمال المخالفة للأخلاق الإسلاميّة ولمقاصد الشريعة المعتبرة، وبالتالي هي من الأخلاق والمفاسد التي ينبغي درءها ومنعها. إنّ المبادئ الأخلاقيّة في الشريعة الإسلاميّة تنصّ على أنّ الحياة الإنسانيّة منحة من الله سبحانه وتعالى للإنسان، وهذه الحياة لا يملك أحدٌ إزهاقها وانتزاعها بغير إرادة من الله، ونظراّ الى ذلك كان الاعتداء على حياة الفرد دونما حقّ مشروع هو اعتداء على المجتمع كلّه، وتعريض له للفوضى وعدم الاستقرار والأمن، وفي المقابل كانت معاقبة الجاني بالقصاص هي إحياء للمجتمع كلّه وإرساء لدعائم الأمن والاستقرار فيه"مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً"المائدة: 32. ولما كانت النفس الإنسانية معصومة في دين الإسلام، والدم الإنساني يحظى بشأن عظيم وحُرمة مغلّظة، قرن الله تعالى بين القتل بغير الحق، وبين الشرك به في غير ما آية في كتابه العزيز"وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ"الفرقان:68. ونظراً الى حرمة الدم الإنساني - أيضاً - أخبر الرسول الأكرم صلّى الله عليه وسلّم أنّ أول الأمور التي يُقضى فيها بين العباد يوم الحساب إنّما هي الدماء، فيُقتَصّ من كل إنسان أصاب دماً حراماً، وفي ذلك تنبيه إلى تغليظ أمر الدماء بين الناس، وعِظَم أمر الدم"إذ أنّ البدء إنّما يكون بالأهم والذنب يعظُم بحسب عِظَم المفسدة، وإعدام البنية الإنسانيّة غاية في ذلك. إنّ الأخلاق الإسلاميّة التي تؤكد صيانة النفس الإنسانية وحُرمتها لا تقتصر على النفس المسلمة فحسب وإنما تحمل في دلالاتها معاني العموم لتشمل حرمة الاعتداء على الدم الإنساني مهما كان وصفه، ومهما كان انتماء صاحبه، وسواء كان ذلك نتيجة لجريمة عاديّة، أم كان بسبب ممارسات عنفيّة غير مشروعة إرهابيّة. ولئن كان الاعتداء على النفس المسلمة من مسلمات الأمور فإن حرمة نفس الإنسان غير المسلم سواء كان ذمّيّاً أم معاهداً أم مستأمناً هي كذلك ثابتةٌ في العديد من النصوص الشرعيّة وبما لا يدع مجالاً لأيّ نقاش أو احتمال، لأنّ من أهم مقتضيات عقد الذّمة وعقد المعاهدة وعقد الاستئمان أن يتعهد الْمُبرِم لتلك العقود بتوفير الأمن، وتأمين حماية الأنفس والأرواح، ويتعهد بحقن الدماء وصيانتها من الهدر، وعليه فإنّ أي إخلال بالمتعَهَّد به هو من الغدر المشؤوم والنكث المحرَّم، الذي يسخطه الله ورسوله،"الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ"البقرة:27. لقد تقرّر لدى كلّ فقهاء الشريعة أنّ أهل الذمّة والمعاهدين والمستأمنين جميعهم معصومو الدماء، وأنّ قتالهم وقتلهم حرام بالإجماع، حتى أنّ الأحاديث النبوية جاءت لتأكد أنّ الاعتداء على حرمة تلك الأنفس سبب للحرمان من دخول الجنة بل حتى من رائحتها، وعليه فإنّ أي اعتداء عليهم أو إيذاء لهم هو مخالف للتعاليم والأخلاق الدينيّة المنصوص عليها. كما يتجلى البعد الأخلاقي في حرمة النفس الإنسانية من خلال رؤية الشريعة وموقفها من بعض الممارسات التي تمس الإنسان جسداً وروحاً: من ذلك مثلاً حُرمة اعتداء الإنسان على نفسه، سواء كان ذلك الاعتداء بإزهاق الروح بصورة مباشرة الانتحار، أم من خلال القيام بفعل ما قد يؤدّي إلى تلف النفس أو زوال الروح، كأنْ يستأصل الإنسان عضواً من جسده لغير مرض أو مصلحة شرعيّة تعود عليه"وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً"النساء:29، ثمّ إنّ نفس الإنسان ليست ملكاً له، وإنّما هي ملك لخالقها، وسيُسأَل الإنسان عنها، هل حفظها وقام بأداء حقوقها وواجباتها، أم أنّه ضيّعها واعتدى عليها، ولم يراعِ فيها مقاصد الشرع بأنْ يُحَقِّق لها المصلحة ويدرأ عنها المفسدة. ومن عظيم اهتمام الإسلام بالنفس الإنسانيّة، فرض العديد من الأحكام التي تكفل حمايتها وصيانتها، ولم يقتصر الأمر على الظروف العاديّة أو الطبيعيّة بل تعدّاه ليشتمل كل الحالات الاستثنائيّة، كحالات القتال التي تقع بين المسلمين وغيرهم، فكان بذلك غايةً في الإنسانيّة والرّحمة والعدل، ونلحظ ذلك في العديد من التشريعات القتاليّة، والتي من أهمّها ما جاء بخصوص حماية بعض ضحايا النزاعات الدوليّة، إذ جاءت النصوص لتأكد أنّ هناك أصنافاً معيّنة من الرعايا المنتمين للعدوّ المحارِب، لا يجوز قتالهم ولا يجوز الاعتداء عليهم، وتذخر المدوّنات الفقهيّة في العديد من الأمثلة على أولئك الأصناف، فكانت الشريعة الإسلاميّة بذلك شريعة أخلاقية تحفظ الدماء وتصون الأنفس حتى في حروبها ومع أعدائها. - وبلغت الأخلاق الإسلامية ذروتها عندما قررت موقفها من حرمة الإنسان حتى بعد الموت، حيث حظي قتيل المعركة - وإن كان عدواً - بحصانة تحفظ له كرامته الجسديّة من الانتهاك، وتحمي جسده من أي مُثلَة أو تشويه. - ومن أكثر المسائل التي يتجلى فيها البعد الأخلاقي ما قررته الشريعة الإسلامية من أنّ التعامل مع أسرى العدو في حالة الحرب ينحصر ب?"المن أو الفداء"مؤكّدة بذلك على أن الأخلاق الإسلاميّة تأبى الاعتداء على الأسرى بالقتل أو الإيذاء، وليس ذلك فحسب بل أصبح إطعام الأسير والتودّد إليه، وحُسن معاملته، من الأشياء المتسبِّبة في امتداح المؤمنين الخُلَّص. أخيراً هناك الكثير من التشريعات الإسلامية التي نصّت على حُرمة النفس الإنسانيّة، ولكن ما يعنينا من كل ذلك هو التأكيد على أن كل تلك التشريعات تُبرز وبما لا يدع مجالاً للشك سموّ وإنسانيّة وعظمة الأخلاق الإسلاميّة، وأن النظام التشريعي الإسلامي هو كيان مجسد لهذه الروح الأخلاقية، وأن الأخلاق هي جوهر الإسلام وروحه السارية في جميع تشريعاته وجزئياته، لدرجة أننا لا نكاد نعثر على حكم تشريعي واحد إلا ونجد البعد الأخلاقي حاضراً فيه.