كان المشهد أليماً على الشاشة الصغيرة: مقاتل في مقتبل العمر يطلق النار على إحدى نوافذ مبنى تلفزيون"المستقبل". لم يكن أحد وراء النافذة ولا في المبنى الذي يحترق بعدما أضرمت فيه النار. لكن المقاتل الذي يعلم جيداً هذا الأمر، أصرّ على إطلاق الرصاص من الشارع قبل أن يغادر. إنها رصاصات"الرحمة"كما يُقال في لغة الحروب، رصاصات الرمق الأخير التي تُطلق عادة على الجرحى الذين يحتضرون في ساحة الحرب لتنقذهم من الألم. كان يعلم المقاتل الشاب أيضاً أن رصاصاته لن يكون لها أثر على جدران مبنى التلفزيون الذي خرّب وأحرق ورمي بقنابل"المولوتوف"، لكن رصاصه بدا أقرب الى"المجاز": الإصرار على قتل الصورة. بدا المبنى كله في عينيه صورة، صورة حية، تجتاز الفضاء وتدخل المنازل حاملة الى الجمهور الكبير وقائع يصعب محوها من العيون والذاكرة. هكذا تهيّأ له أنه يقتل الصورة، يطلق النار عليها، على الرمز الذي تمثله وليس على جدران مبنى ليس فيه أحد. مشهد أليم ثانٍ داخل المبنى بعد إخماد الحريق: صورة"الزوبعة"الحمراء ارتفعت على واجهة الخزائن الصغيرة في إحدى الصالات. ماذا تفعل"الزوبعة"هنا وسط الأنقاض؟ أتراها علامة انتصار؟ انتصار مَن على مَن؟ انطون سعادة المفكر والزعيم كان سيغتاظ كثيراً لو أبصر هذا المشهد، هو الذي علّمنا مبادئ الحق والخير والجمال. واجهة تلفزيون"المستقبل"ليست حائط المبكى ولا جدار العزل الذي شيّده العدو الإسرائيلي مقطّعاً أوصال الأرض السليب. مشهد أليم آخر: صحيفة"المستقبل"يتصاعد الدخان الأسود من نوافذ مبناها الذي أطلقت عليه قذائف حارقة. كانت رائحة الحبر والورق تفوح من"الشاشة"ورائحة الأفلام المحروقة تهبّ وسط السحب السود. كان تلفزيون"المستقبل"يقدم حلقات بديعة عن نكبة فلسطين في ذكراها الستين، ساعياً الى شرح القضية للجمهور العريض بموضوعية نقدية وقراءة سياسية عميقة مدعومة بالوثائق والصور. حتى زميلنا زاهي وهبي شاء أن يخصص حلقته الأخيرة من برنامجه"خلّيك في البيت"لقضية النكبة. هذه الحلقة لن يشاهدها الجمهور هذا الأسبوع بعدما عطّل تلفزيون"المستقبل". إسرائيل سرّت حتماً بالعقاب الذي حلّ بهذا التلفزيون"المقاوم"بعيداً من الشعارات. لقد تخلّصت من شاشة تملك مشاهدين كثراً في فلسطين، شاشة كانت تخاف لغتها"المقاومة"، نظراً الى موضوعيتها وعمقها. ولم تنس إسرائيل نفسها التي تراقب الإعلام العربي كيف كانت شاشة"المستقبل"سبّاقة الى نقل صور الجرائم التي ارتكبتها في حربها ضد لبنان في"تموز"2006، وكانت من أولى الشاشات التي دخلت الجنوب بعد اندحار الجيش المعتدي. ولا ينسى الجمهور الزميلة ديانا مقلّد تجوب القرى المدمّرة والمحروقة ناقلة صورة صارخة عن عمق المأساة. هل يستحق تلفزيون"المستقبل"مثل هذا العقاب على وطنيّته وعلى وفائه لقضية فلسطين وقضية لبنان وسواهما من القضايا المحقّة؟ ظنّ المقاتل الشاب أنه يطلق رصاصات"الرحمة"على"جسد"تلفزيون"المستقبل"، الرصاصات الأخيرة على"الجسد"المحتضر... لكن ما فاته حقاً هو أن"المستقبل"لا يمكن قتله.