مثل كل سنة في بداية شهر نيسان أبريل، يستقبل "القصر الكبير" باريس معرض "آرت باريس" الضخم الذي تشارك فيه عشرات الغاليريات الفرنسية والأجنبية المهمة منذ عام 1998. وتوقّفنا عند هذه التظاهرة اليوم لا يبرره فقط ديمومتها ونجاحها في زمنٍ تتضاءل فيه نسبة مجمّعي اللوحات وهواتها، بل أيضاً مثابرة منظّميها على التطوّر بها في اتجاه موقعٍ أكثر فأكثر معاصرة ودولية وتمثيلاً لسوق الفن اليوم. هذه السنة، تستقبل التظاهرة 115 صالة عرض، أي بزيادة 25 صالة عن الماضي. ويشارك أصحاب هذه الصالات الخاصة بأعمالٍ لوحات، منحوتات، تجهيزات، فيديو وصور فوتوغرافية تعود إلى أبرز فنانيهم، الأمر الذي يحوّل التظاهرة إلى مكان تتجلى فيه معظم التيارات الفنية التي طبعت القرن العشرين: التصوير السردي، البوب آرت، الواقعية الجديدة، مجموعة"كوبرا"والحركات التجريدية على أنواعها... وللمرة الأولى، ترتفع نسبة مشاركة الغاليريات الأجنبية في هذا المعرض إلى 40 في المائة، حصة أوروبا فيها رئيسية، مع غاليريات من إيطاليا وألمانيا وبلجيكا وسويسرا وهولندا وبريطانيا وأسبانيا والنمسا وفنلندا والسويد وهنغاريا وسلوفينيا وموناكو ولوكسمبورغ. وفي الوقت الذي تبدو المشاركة الأميركية هزيلة أربعة غاليريات، يُثبت المشرفون على هذا المعرض انفتاحهم على العالم العربي، ليس فقط من خلال تنظيمهم في تشرين الثاني نوفمبر الماضي نسخة مشابهة له في أبو ظبي وعبر استقبالهم حالياً غاليري من سورية وأخرى من تونس، ولكن أيضاً بتخصيصهم فسحة كبيرة داخل التظاهرة الحالية لمعرضٍ جماعي اقترحه ونظّمه مؤرّخ الفن الناقد إبراهيم العلويپوشارك فيه عشرون فناناً صاعداً أو معروفاً، هم: عادل عابدين العراق، لميا زيادة ونينار إسبر لبنان، فيصل السمرا السعودية، بثينة علي سورية، منير فاطمي وفؤاد بلامين ومحمد الباز المغرب، غادة عامر وأمل كناوي ويوسف نبيل ومعتز نصر مصر، كريمة الشومالي الإمارات، قادر عطية وناديا بنبوطة ويزيد اولاب وجمال طهطه الجزائر، وتيسير بتنيجي فلسطين، ومريم بودربالا تونس. وفي معرض شرحه طبيعة وأهداف هذا المعرض الذي يحمل عنوان"Traversژes"، يقول العلوي:"حصيلة بين الشرق والغرب، يظهر الفن العربي المعاصر داخل المعرض في كل تنوّعه، تنوّعٌ يدعونا إلى تنقّلٍ دائم في الزمن وداخل الفضاء، ومن وسيطٍ إلى آخر". وفعلاً، يقابل المعرض أعمالاً لفنانين صاعدين بأعمالٍ تعود إلى فنانين من الجيل السابق، الأمر الذي يعكس طبيعة الفن الحالي المتعدِّد الأشكال ويبيّن القواسم التي يتشارك فيها الجيلان، أي استخدام أدوات الحداثة والرغبة في التبادل والتحاور وهاجس التساؤل حول رهانات الفن الدولية. لكن، مقارنةً بالجيل الأول الذي تعكس أعماله المعروضة تركيزه على تقنية الرسم بالريشة وانحصار مواضيعه بمسائل الهوية والذاكرة وضرورة التموضع بالنسبة إلى الآخر الفنان الغربي، يبرهن الجيل الصاعد، في تعدُّد وسائطه الصورة الفوتوغرافية، الفيديو والتجهيز، إلى جانب الرسم بالريشة وفي خيار مواضيعه المحرّمة سابقاً، على جرأة أكبر، كما يتميّز عن الجيل السابق بتبنّيه فكرة الانتماء إلى العالم وليس إلى جزءٍ منه فقط، الأمر الذي يُسهّل على فنانيه مهمة اختراق الساحة الفنية الدولية. ومثلما تظهر في المعرض أوجه الاختلاف بين الجيلَين، يظهر أيضاً تباينٌ في ممارسة الفن وسيرورة تطوّره بين دولة عربية وأخرى. ففي لبنان ومصر ودول المغرب العربي مثلاً، يُشكّل التقليد الفني وتاريخه عنصراً فاعلاً، وأحياناً عبئاً على الإبداع الحديث والمعاصر، بينما تنعدم لدى الفنانين الصاعدين في دول الخليج"عقدة"التاريخ، كما يبدو ذلك في تبنّيهم السريع والعفوي للوسائل والتقنيات الفنية الحديثة. ومع أن تجربة بعضهم لم تبلغ بعد نضجاً كافياً، لكنها تتميّز بنضارةٍ وحرّية كبيرتين. ولعل أكثر ما يثيرنا في هذا المعرض هو كشفه رهانات ممارسة الفن في عالمنا العربي. فمن هذا المنظار، يتبيّن توق الفنانين العرب إلى التعبير، كل واحدٍ على طريقته، عن مشكلات وآمال وتناقضات حضارتهم. إذ تسمح لهم ممارسة الفن بمقاربة مواضيع روحانية وأخرى تتعلق بالجسد أو العلمنة أو العنف، باختصار، كل المسائل التي تواجههم في حياتهم اليومية. ويميّز الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي الخاص في كل دولة عربية هؤلاء الفنانين في ما بينهم، وبالتالي يمنع أيّ شخص من النظر إلى العالم العربي بطريقةٍ أحادية اللون. ففي لبنان مثلاً، يعمل الفنانون الذين عاشوا صدمة الحرب الأهلية على صراع الطوائف والاثنيات ويفضحون آثار هذا التمزّق. وفي مصر، يشهد الفنانون الجدد بلغة اليوم على الضيق الناتج عن تقاليد ومحرّماتٍ كثيرة لا تزال سائدة داخل مجتمعهم. وفي المغرب، وعلى أثر تنامي حرّية التعبير فيه، نلاحظ ديناميكية محلية حقيقية وانفتاحاً على العالم يشهد عليهما تكاثر صالات العرض الخاصة في المدن الرئيسة وتمكّن عددٍ مهم من الفنانين المغربيين من عرض أعمالهم في أوروبا، أسوةً بالفنانين اللبنانيين والمصريين. وحول موقع الفنانين العرب المتنامي على الساحة الفنية الدولية، وطبيعته، يقول العلوي:"يحاول فنانونا بعدلٍ تطوير اختلافهم: فمع أنهم يستخدمون وسائل اتصال شائعة في العالم أجمع، إلا أنهم يحوّلونها من معناها الأول ويمنحونها معنىً جديداً. وبذلك يتمكنون من مقاومة العولمة التي تميل إلى إفقار العالم وتوحيد معالمه! يساهم هؤلاء بلا شك في إغناء المشهد الفني الدولي من خلال إسهامٍ فردي وجماعي، وعبر تغذيتهم جدليةٍ مثيرة وخصبة بين المحلي والعالمي". على مفترق تيارات عدة وحساسيات فنية، تتجلى تظاهرة"آرت باريس"، من خلال الفسحة المخصّصة داخلها للفنانين الأجانب، كملتقى ثقافي يعثر فيه كلٌّ من الفنان وتاجر الفن ومُجمِّع التحف وهاوي الفن حتماً على مادّةٍ تغذي ولعه وترضي فضوله.