مع اشتداد حمى المنافسة الانتخابية في الولاياتالمتحدة برزت قناة "الحرة" بصفتها الفضائية الأكثر حرفية ونشاطاً بين مختلف الفضائيات الناطقة بالعربية في تغطية الانتخابات التمهيدية للرئاسة. ولا عجب في ذلك، إذ أنها قناة أميركية تبث من واشنطن، وهي بصرف النظر عن ذلك تبلي بلاء حسناً، وتعتمد منهجية مهنية وموضوعية لافتة في تغطيتها المكثفة ومتابعتها الحثيثة لسير الانتخابات، وتفاعلاتها الداخلية والخارجية. ولعل ما يضفي مزيداً من الإثارة والتشويق على هذه الانتخابات هو إجراؤها على مراحل زمنية مختلفة في كل مجموعة من الولايات، حتى أن"الحرة"تتحول من دون مبالغة إلى خلية نحل خلال الأيام التي تنظم فيها انتخابات تمهيدية في كل مجموعة من هذه المجموعات، لاسيما عندما تضم بينها ولايات رئيسة. ولعل هذا ما تبدى جلياً خلال تغطيتها الماراثونية ليوم"الثلثاء الكبير"عندما نظمت الانتخابات في أكثر من عشرين ولاية. واذا كان السيناتور جون ماكين فاز بترشيح حزبه الجمهوري للرئاسة إلا أن الأمر لم يحسم بعد في المعسكر الديموقراطي حيث ما زالت المنافسة على أشدها، بل تزداد ضراوة بين المرشحين السيناتور هيلاري كلينتون والسيناتور باراك أوباما اللذين أحدثا تحولاً نوعياً ودراماتيكياً في طبيعة مرشحي الرئاسة الأميركية، وهو تحول ستكون له مفاعيل وتأثيرات تغييرية قيمية عميقة وايجابية في السياسة والاجتماع الأميركيين لجهة انغماس النساء والأميركيين السود وسائر الأقليات الاثنية الأميركية أكثر فأكثر في السياسة في إطار تعميق قيم المواطنة والعدل والمساواة والتكافؤ بين سائر الأميركيين بصرف النظر عن انتماءاتهم العرقية والجنسية والدينية. والراهن في هذه المعركة الانتخابية الساخنة التي يترقب العالم أجمع معرفة نتائجها في تشرين الثاني نوفمبر المقبل حرص فضائيات العالم ووسائل إعلامه المختلفة ومنها العربية طبعاً على متابعتها لحظة بلحظة، ما يشكل فرصة لشعوب منطقتنا للتعرف أكثر فأكثر الى طبيعة النظام الديموقراطي السياسي في أميركا وآليات اشتغاله وانتظامه. وهنا تلعب قناة"الحرة"دوراً معرفياً مهماً في هذا الصدد عبر مواكبتها الاحترافية للمعركة من خلال تغطياتها الإخبارية والتحليلية المفتوحة والمفصلة لهذه الانتخابات التي يديرها بحنكة وسلاسة المذيع إفرام القصيفي، وعبر توزيع مجموعة من مراسليها وموفديها مثل كلاريسا عون وعادل الشرقاوي ووفاء جباعي على مختلف الولايات، من كاليفورنيا إلى فلوريدا ومن ميشيغان إلى تكساس... فضلا عن استضافتها باحثين وخبراء في مراكز أبحاث ومعاهد دراسات أميركية مرموقة، وهم متخصصون في مجال التخطيط الاستراتيجي للحملات الانتخابية بغية إشباع هذه العملية الانتخابية درساً وتحليلاً بما يتيح استيعاب قواعدها ونظمها، ويساهم في تعريف المشاهد بهذا التقليد الديموقراطي العريق ويزيده دراية والماما بواقع التعددية والتنوع السائد في أميركا. وفي سياق هذه التغطية يتم التركيز على كل ولاية على حدة عبر سرد معلومات عامة عنها، وتناول الخصائص التي تميزها... فهذه الولاية مثلاً زراعية يغلب عليها الطابع الريفي المحافظ وتتميز على رغم غالبية سكانها البيض كسائر الولايات بوجود نسبة سكانية كبيرة من الأفرو- أميركيين... وتلك ولاية صناعية يغلب عليها الطابع المديني الليبرالي وتتميز إلى جانب الغالبية البيضاء بنسبة كبيرة من السكان الهسبانك اللاتين... وهكذا فإن المشاهد يحصل على صورة بانورامية عن كل ولاية أميركية لجهة تركيبتها الديموغرافية وتوجهاتها السياسية ومزاجها الانتخابي وطبيعة الواقع الاقتصادي والاجتماعي والعرقي فيها. ولعل أهمية هذه الانتخابات، والتجربة الأميركية عموماً، تكمن في هذا التوليف الديموقراطي الفذ بين كل هذه الولايات بكل تمايزاتها وتبايناتها وحتى تناقضاتها عبر تنظيم كل هذا التعدد والتنوع الهائلين واستيعابهما في إطار معيار فيديرالي مدهش ومتين. نقول هذا وندرك أن التغطيات التلفزيونية المكثفة حول العالم لهذه الانتخابات التي تُجرى في أجواء تنافسية واحتفالية صاخبة تجعلها أشبه بكرنفال وطني جامع للأميركيين بكل مشاربهم وانتماءاتهم. وتساهم،أيضاً،في تأسيس الوعي والثقافة الديموقراطيين وتحفيزهما لدى المتلقي في عالمنا الثالث الذي يشاهد بأم عينيه كيف أن المرشحين، على مدى أشهر طويلة، يتبارون ويتنافسون ويصلون الليل بالنهار في سبيل إثبات أنفسهم أمام جمهور الناخبين بغية إقناع الناس أطروحاتهم وبرامجهم الانتخابية بتفصيلاتها ودقائقها، وليس فقط بعناوينها وكليشيهاتها. بل حتى في كيف يمكن لعشرات الملايين من الاميركيين البيض ان يصفقوا لمرشح أسود على رغم كل ما يقال عن العنصرية الأميركية، وكيف تقف امرأة أمام جموع الناخبين المواطنين تحدثهم عن الحقوق والواجبات. كل هذا كان قائماً منذ زمن بعيد. لكنه لم يكن كبير الأهمية بالنسبة الى العالم الخارجي الذي اعتاد أن يشتم اميركا وكل ما هو اميركي من دون ان يعرف عنها شيئاً. أما الآن وقد انتقل الامر برمته الى التلفزيون فالمشاهد، بعيداً من التنظير والشعارات، من الواضح ان الشاشة الصغيرة بدأت تفلح في إعطاء صورة ما، جديدة.. لاميركا.