استطاعت السينما الفلسطينية منذ عشرين سنة أن تمتد وتنتشر إلى خارج الحدود الثقافية والجغرافية للشرق الأوسط. وقد استقبل الجمهور العالمي بحفاوة الأفلام الفلسطينية من دون أن يقصر اهتمامه على الأعمال المتميزة فرحب بالأعمال الرائعة كما المتوسطة أو الضعيفة، والعميقة كما السطحية - كلها كانت محط احتفائه غالباً من باب التضامن والتعاطف مع الشعب الفلسطيني وليس بالضرورة لقيمتها الفنية. ولكن مع الزوال المحتوم لزخم الاهتمام بالقضية الفلسطينية أو على الأقل القضية كما عرفناها في العقود الأربعة الأخيرة، وتراجع الدعم العالمي نتيجة انحطاط مشروعنا التحريري الوطني، هل من الممكن أن يدوم ذلك التقبل للسينما الفلسطينية؟ الجمهور الذكي - ويجب الافتراض دائماً أن الجمهور ذكي - سيتساءل على الغالب: كيف من الممكن لشعب شجاع ومبدع أن ينتج مجتمعاً وقيادة رجعية تفتقر للخيال والبصيرة والأفكار إلى الدرجة التي تنزلق فيها إلى حرب أهلية أمام أعين المحتل؟ هل ممكن أن يغتفر للفنانين عجزهم وصمتهم في حال كهذه؟ وماذا من الممكن أن نتوقع منهم، ومن أنفسنا، في الوقت الذي يستمر وطننا بالانكماش جغرافياً في حين يغرق الناس في اليأس؟ هل من الممكن للفنانين أن يكشفوا لنا عن آلية الظلم التي تمارس ضدنا، وأن يقنعونا في الوقت نفسه أن التغيير ما زال ممكناً؟ أؤمن أن ذلك يتحقق فقط حين نستمر في الدفاع عن حقنا بإنتاج ثقافة مستقلة، غير مراقبة، ورفيعة المعايير الفنية، خصوصاً أن المشاريع الاستعمارية مثيلة الصهيونية، والتي مارست التطهير العرقي، غير قادرة على النجاح في تحقيق أهدافها من دون أن تمحي وجود الشعب المستعمَر ثقافياً. ومن العناصر الإستراتيجية التي ساهمت في شكل حاسم في استمرار النضال الفلسطيني العلاقة الخاصة بين الفلسطينيين داخل فلسطين التاريخية سواء في الضفة الغربية، قطاع غزة، أو داخل دولة إسرائيل والفلسطينيين في المنفى. في الماضي حين ضعفت هذه العلاقة كان الثمن الاقتصادي والسياسي باهظاً، وكثيراً ما كان الثمن الثقافي باهظاً أيضاً ما كان يوجد لدينا الأرق بالنسبة الى وجداننا وديمومة ثقافتنا على أرض فلسطين وخارجها. أما اللحظات المميزة في مشهدنا الثقافي منذ النكبة وتحديداً تلك التي حصل فيها تغيير جذري، عادة ما كانت تتلو حدثاً مميزاً يقوي تلك الرابطة بين فلسطينيي الداخل والخارج - على سبيل المثال نشر"ديوان الوطن المحتل"في 1969 الذي قدم أعمال الشعراء الفلسطينيين المقيمين في دولة إسرائيل إلى رفاقهم في المنفى، محدثاً تغيراً عميقاً في القصيدة العربية المعاصرة وممهداً الطريق لرحيل محمود درويش الطوعي من إسرائيل إلى بيروت"أو عرض فيلم ميشيل خليفي"الذاكرة الخصبة"في عام 1982 وللمرة الأولى في العالم العربي، ضمن مهرجان قرطاج السينمائي في تونس، ما أثر تأثيراً جذرياً في مجرى وجماليات السينما المناضلة، إضافة إلى أنه كان أول فيلم فلسطيني يخرجه فلسطيني بعد النكبة في داخل فلسطين.... قصص... قصص ... فاليوم، إذا أردت أن أصنع فيلماً في فلسطين، ماذا سأجد هناك من الموارد اللازمة؟ القصص بالتأكيد، ففلسطين غنية بالقصص الإنسانية المثيرة والرائعة والمضحكة أيضاً والتي لها صدى إنساني عالمي. ولكنني لن أجد سوى عدد قليل من الفنيين أو الفنانين المدربين، أو المخرجين والمنتجين المتمرسين في المهنة، إضافة إلى نقص المعدات وصالات العرض المجهزة والافتقار إلى شركات الخدمات الفنية المهنية وطبعاً قلة موارد الاستثمار العام أو الخاص. وفي الواقع، معظم الأفلام الفلسطينية المعاصرة التي انتشرت عالمياً أنتجت بواسطة دعم أجنبي، وطاقم أجنبي، وفي بعض الأحيان من وجهة نظر أجنبية! وبعض الأفلام أنتجت بواسطة دعم مالي وفني أو طاقم إسرائيلي. ولهذا إن الهم الأساسي للفنانين هو سيطرتهم على أدواتهم وأساليبهم التعبيرية والفنية فمن المهم جداً تطوير المهارات لديهم وتوفير وسائل الإنتاج التي تسمح بهذه الاستقلالية. كيف من الممكن أن ننجز ذلك؟ الجواب يكمن في التعليم، والتدريب والثقافة. إن التطور التكنولوجي ليس كافياً بحد ذاته. فمن الممكن تدريب الإنسان الذي فقد الثقة بنفسه نتيجة عقود من الإذلال الاستعماري على تشغيل أي آلة أجنبية الصنع، ولكن كيف من الممكن إقناعه أو إقناعها بأنه يستطيع أن يطوع تلك الآلة إلى الدرجة التي تصبح فيه ملكه التام، أي تصبح شيئاً بمقدوره أن يسيطر عليه تماماً وحتى أن يقوم بتصنيعه؟ بناءً على هذه التساؤلات والتحديات، أطلق المشروع الفلسطيني للمرئي والمسموع عام 2004 بدعم من مؤسسة عبد المحسن القطان والاتحاد الأوروبي. اهتم المشروع بثلاثة جوانب، أولها وأهمها برنامج تدريبي أساسي في فن صناعة الأفلام صممه وأداره المخرج الفلسطيني ميشيل خليفي انتهى بمسابقة سيناريو وورشتي عمل نتج منها ثلاثة سيناريوات أفلام روائية قصيرة وواحد وثائقي تم تصويرها في صيف وخريف 2007. بعض الطلاب اختاروا مهنة الإنتاج، والتسجيل الصوتي، والتصوير، وآخرون توجهوا نحو كتابة السيناريو والإخراج. ومن الجدير بالذكر أن عدداً من هؤلاء الطلاب نجحوا في ما بعد في الحصول على عمل ضمن طواقم مهنية لأفلام عدة تم تصويرها في الآونة الأخيرة في فلسطين. لم يكن هدفنا تهيئة فنيين كفوئين فحسب، ولكن الأهم من ذلك كان أن نقدم للطلاب منهجية عمل صارمة تمنحهم القدرة على ترجمة أفكارهم وآمالهم إلى مشروع ملموس، وأن نزرع فيهم حساً بضرورة فهم السينما وتاريخ وجماليات المرئي والمسموع قبل الخوض في ممارستهم للمهنة. كما قال خليفي فقد هدف البرنامج أيضاً"إلى تشجيعهم على بناء مشاريعهم الفنية بالاستناد على تأمل جدي في طبيعة العلاقة بين عالمهم الذاتي، والعالم الموضوعي الخارجي". وقد أردنا أيضاً أن نفسح أمامهم مجالات وآفاق جديدة لما هو ممكن، بكلمات أخرى، أن نقنعهم بأنهم يستطيعون أن ينتجوا أعمالاً عميقة وفيها التحدي والإبداع والجمال على رغم الاحتلال والهزائم. شكل البعد التعليمي - الثقافي الذي يعد جوهرياً في أي صناعة فنية الجانب الثاني من هذا المشروع، من خلال برنامج الثقافة السينمائية في المدارس الذي قام بتأسيس 46 نادياً للسينما مجهزاً بكامل المعدات لعرض الفيديو في مدارس مختلفة في أنحاء فلسطين التاريخية بما في ذلك المدارس العربية داخل دولة إسرائيل، من بلدة طمرة في الجليل إلى مدينة رفح في الجنوب! وقد قام البرنامج بتوزيع نسخ عالية الجودة لما يزيد عن ثلاثين فيلماً كلاسيكياً عالمياً مترجماً إلى العربية، إضافة إلى عدد من كلاسيكيات السينما العالمية والعربية التي تم شراء حقوق توزيعها وترجمتها إلى العربية حيث لزم ذلك. وقمنا أيضاً بتدريب الأساتذة المشرفين على هذه النوادي على قواعد لغة المرئي والمسموع وتاريخ وجماليات السينما وبعض سبل استخدامها داخل المدرسة كأداة تعليمية. مبدأ ديموقراطي لم يكن الهدف إنشاء مبادرة عامة توسع ثقافة السينما لدى الجيل الجديد فحسب، بل ارتأينا أنه في غياب دور السينما وشبكات العرض الحرة والخارجة عن إطار المؤسسات الإعلامية الرسمية والمراقبة، لن يتاح لأطفالنا الحق الديموقراطي بأن يشاهدوا الأفلام التي من دون هذا المشروع وغيره من المبادرات لن تكون متوافرة لهم. إضافة، نأمل بأن يكون للمرحلة القادمة للمشروع بعد جديد يركز على صنع الأفلام وليس مشاهدتها ودراستها فحسب. وقد حكم هذا المبدأ الديموقراطي أيضاً الجانب الثالث للمشروع، الذي وفر أكثر من خمس وعشرين منحة لتوزيع الأفلام ذات الموضوع الفلسطيني ونشرها على أقراص الپ"ديفيدي"، تم أيضاً توزيعها على الست وأربعين مدرسة إضافة إلى نواد ومرافق أهلية انضمت إلى الشبكة العربية لنوادي السينما "شبكة" والتي قمنا بتأسيسها في كل من فلسطين بما في ذلك دولة إسرائيل والأردن ولبنان وسورية. وبهذه الطريقة تمكنا من التأكد أن الأفلام الفلسطينية تشاهدها المجتمعات المعنية بها حقاً، أو جزء أكبر منها على الأقل، مما نأمل بأن يؤدي الى وضع تربة خصبة ينمو منها جمهور محلي متابع ومحب للسينما، لأنه من دون جمهور كهذا لا يكون هناك صناعة سينمائية وطنية. ولكن لماذا نعطي هذه الأبعاد ذاك الاهتمام الكبير؟ لأننا نعتقد أن من دون قاعدة مهنية قوية وثقافة مرئية ومسموعة ديموقراطية وحرة، إضافة إلى سوق محلية نشطة ومتاحة لأكبر عدد ممكن من المواطنين بل ومحكومة بقوانين واضحة، لا يمكن أن يكون هناك صناعة وطنية مستقلة ومزدهرة سواء في فلسطين أو في أي مكان آخر في العالم العربي. فقط تلك السوق التي تتحدث العربية وتعنى بكل ما هو عربي، ستمنح الأفلام العربية والفلسطينية القدرة على أن تصبح حقاً مستقلة، وتنجح في إقناع القطاع العام والخاص على إعطائها الدعم الذي تستحقه، وإلا ستظل الأفلام الفلسطينية، كما العربية، تصنع للتصدير فقط، منفية ومقطوعة عن ثقافتها الأصلية أو في أحسن الأحوال تعرض فقط ضمن التظاهرات والمهرجانات التي تكاثرت مؤخراً ولا تقوّم بالضرورة بحسب معايير فنية تخولها المنافسة الدولية. إن هذه الخبرة المتواضعة نسبياً في فلسطينالمحتلة بإمكانها أن تشكل نموذجاً لمشاريع أخرى في الوطن العربي بشمولية منهجيتها. لكن لا شك في أننا اليوم في حاجة الى صندوق مستقل ومدعوم من القطاع الخاص أو،والعام، لتلبية ودعم حاجات ومشاريع المرئي والمسموع العربية ذات التميز، شرط أن تكون هذه المشاريع قادرة أيضاً على تطوير القدرات وتشجيع الإبداع الحر، وقابلة للتوزيع في شكل ملائم وغير مراقب في المنطقة. هذا الدعم من الممكن أن يستغل أيضاً في تأسيس أكاديميات رفيعة المستوى، متعددة المناهج في مجال الصوتيات - المرئيات ? ولمَ لا في فلسطين؟ فإذا قدر لهذه الطموحات أن تتحقق حتى لو كان ذلك في المنفى أو على نطاق صغير، فلربما تستطيع فلسطين مجدداً أن تقدم نموذجاً طلائعياً للعالم العربي في مجال الإبداع الثقافي على رغم مأزقها السياسي! * سينمائي ومدير المشروع الفلسطيني للمرئي والمسموع