"لقد صنعت سيدتي ما لم يقدر على صنعه الرجال" كلمة قالها الاقتصادي الكبير طلعت حرب مؤسس"بنك مصر"للسيدة عزيزة أمير، ليلة العرض الأول لفيلمها"ليلى"1927، واليوم نقولها للفنانة المنتجة السينمائية عضو مجلس الشورى مديحة يسري. استقبلت مديحة يسري بحرارة كعلامة مضيئة في السينما المصرية وضيفة شرف حلقة بحث"السينما المصرية من النشأة للتكوين"التي نظمها المجلس الأعلى المصري للثقافة بإشراف هاشم النحاس في إطار الاحتفال بمئوية السينما. استهلت الفنانة الكبيرة حديثها بأنه لم يعد محل نقاش أن صناعة السينما في مصر قامت على أكتاف ست سيدات، هن بهيجة حافظ، فاطمة رشدي، أمينة محمد، آسيا وماري كويني، فضلاً عن الرائدة عزيزة أمير، ذلك في بدايات القرن الماضي. ثم عاشت السينما بفضل سيدات الجيل الثاني، وهن مديحة يسري، ماجدة الصباحي، سميرة أحمد، وبالطبع فاتن حمامة، لقد حملن السينما كصناعة وفن على أكتافهن، وفي سبيلها ضحين بكل شيء لتتوج السينما المصرية بالريادة على سينما الأمة العربية. استطردت الفنانة الكبيرة بأنها عائدة لتوها من مهرجان سينما المرأة في باريس، حيث تم تكريمها كنموذج للمرأة العصرية والفنانة التقدمية، فهي أول فنانة عربية كانت طالبت بحق المرأة في العمل، خلال فيلمها"الافوكاتو مديحة"1950 باكورة إنتاج الشركة التي أسستها باسمها للإنتاج السينمائي، وكتب الفيلم وأخرجه يوسف"بك"وهبي الذي تعتز بأستاذيته لها. وقالت مديحة تعليقاً على التكريم إن أي تكريم لها أو جائزة حصلت عليها هي تكريم لبلدها، قالت:"أنا فنانة مصرية أولاً، أعمل للنهوض بصناعة السينما في بلدي، لقد أنجزت أكثر من 79 فيلماً كممثلة وأيضاً منتجة على مدار 52 سنة أنتجت 6 أفلام 1945 لحساب شركة إنتاج باسم زوجي في ذلك الوقت ? المطرب محمد أمين وأنتجت 6 أفلام كمنتج منفذ للقطاع العام برئاسة الكاتب الراحل سعد الدين وهبة، وحرصت خلال مشواري ? تمثيلاً وإنتاجاً على تقديم أفلام هادفة تخدم المجتمع وتحترم التقاليد وتناصر القيم وتسمو بالعواطف فما أحوجنا هذه الأيام لمثل هذه الأفلام". ثم أردفت ضاحكة:"يحق لي اليوم أن يكون اسمي سينما وليس مديحة". "بلاش تبوسني في عينيّ" بدت مديحة يسري أنيقة ورقيقة وجميلة، قالت الكل يعلم قصة"بلاش تبوسني في عينيّ"بدأت مشواري بكلوز آب للوجه ولقطة كبيرة جداً للعينين في فيلم"ممنوع الحب"أمام عبدالوهاب، ومن إخراج محمد كريم 1942 مجرد ثوان، ولكنها كانت جواز مروري إلى ما أنا فيه اليوم. وتابعت مديحة يسري الحديث فقالت:"عملت مع 41 مخرجاً على اختلاف مدارسهم وأساليبهم واليوم وأنا معكم أشعر بالعرفان لكل من علمني وأخذ بيدي، كنت تلميذة في المدرسة حين علمني الأديب الكبير عباس العقاد حب الكتاب وغرس في نفسي الثقة والكبرياء، أدركت انني فتاة غير عادية، رأى فيّ المخرجون مقومات نجمة عربية الملامح سمراء البشرة وذات شعر فاحم". تتذكر ضاحكة أن عمدة مدينة كان قال لها إن"السمار هو الجمال كله". وتتابع مديحة يسري حكايتها:"كانت أول بطولة لي في فيلم"أحلام الشباب"1942 من إخراج كمال سليم، الذي قدمني في إطار النجمة الحلم، أذكر كم كان كريماً معي، فكان عليّ أن أرتدي فستاناً مختلفاً في اللقطة الأخيرة، شاهدني وأنا أبكي، فأرسل مساعده لشراء فستان جديد لي من محلات"شيكوريل"، وبعدها اختارني المخرج الكبير أحمد كامل مرسي لتمثيل ثلاثة أفلام وكان مهتماً بالقضايا الاجتماعية والإنسانية ففي فيلم"العامل"1943 طالب بحقوق العمال وفي فيلم"النائب العام"1946 طالب بتطبيق روح القانون في الأحكام". كان توغو مزراحي أول من راهن على نجوميتها، وتعاقد معها على تمثيل ثلاثة أفلام من إنتاجه أمام الفنانين عماد حمدي وحسين صدقي وأنور وجدي. كان مزراحي ذكياً، دارساً للعلوم التجارية، فتعلمت منه إدارة الإنتاج. أشيع عنه أنه"خواجة"لأنه من أصول إيطالية ولكنه كان ابن بلد مئة في المئة وكان لديه إحساس بالناس في الأحياء الشعبية. وعنيت مديحة منذ بداياتها بالتنوع في الأدوار، واضطلعت ببطولة 16 فيلماً غنائياً. غنى لها أحب المطربين وأكثرهم شهرة: محمد أمين، فريد الأطرش، إبراهيم حمودة ومحمد فوزي،"كما شاركني عبدالحليم حافظ بطولة فيلم"الخطايا"في دور ابني". يقول الناقد نادر عدلي في كتابه"سمراء الشاشة"، إن مديحة يسري أحد الاكتشافات المهمة في تاريخ السينما المصرية"لما تتمتع به من الحضور والجاذبية"، وهي لعبت دوراً في تطوير الأداء التمثيلي نحو الواقعية. وساهمت في تقديم صورة عصرية للمرأة المصرية بملامحها وقوامها، ما شكل حضوراً طاغياً على الشاشة. تم تقديم مديحة يسري في دور المرأة القوية، والتي تملك حق الرفض وتطالب بحقها في العمل، وأجادت مديحة دور السيدة الأرستقراطية، فالجمهور لا ينسى دورها زوجة لفريد الأطرش في فيلم"لحن الخلود"1952 ولا ينسى أيضاً دورها كزوجة متسلطة لعمر الشريف في فيلم"أيوب"من إخراج هاني لاشين 1984. وهي وصلت كما يقول عدلي إلى قمة الرومانسية في قصة حب حتى الموت في فيلم"إني راحلة"1955 أمام عماد حمدي عن رواية ليوسف السباعي وإخراج عز الدين ذو الفقار. وأجادت دور الأم المتعلمة العصرية في أخر أفلامها"الإرهابي"1994 أمام صلاح ذو الفقار ومن بطولة عادل إمام وإخراج نادر جلال، ذلك قبل أن تتجه إلى العمل العام. وسيظل محفوراً في الذاكرة دورها المركب من حنان الأمومة وعذاب الشعور بالذنب في فيلم"الخطايا"رائعة حسن الإمام. دعوة الى إنتاج هادف وفي خاتمة حديث الفنانة الكبيرة مديحة يسري الى النقاد والمخرجين دعت السينمائيين إلى إنتاج أفلام هادفة"من أجل توعية الأسرة والمرأة والشباب"، ودعتهم إلى"التضحية وعدم المغالاة في الأجور"، من أجل استمرار الصناعة. وتذكرت كم التضحيات التي قدمتها الأجيال الرائدة من السينمائيين. ففي عام 1956 تعرضت مصر للعدوان الثلاثي وأعلنت حالة الطوارئ ولكنها صممت على إنتاج فيلم"أرض الأحلام"وتم التصوير في الأماكن الطبيعية في الأقصر وأسوان، وكانت حركة المطارات والموانئ متوقفة. بعد ذلك كان عليها أن تحمل الفيلم إلى لندن لينجز على رغم كل الظروف الصعبة، فلم تكن في مصر في ذلك الوقت ? معامل لتحميض وطبع الأفلام الملونة. قالت:"يومها كتبت تعهداً في وزارة الداخلية أنني مسؤولة عن حياتي، وسافرت وحدي على الباخرة السودان إلى بيروت، وكانت تحمل المرشدين المطرودين من قناة السويس، كانوا في حالة غضب عارم ومخمورين ليلاً ونهاراً ويهتفون ضد مصر. ومن بيروت طرت إلى لندن طبعت الفيلم وسلمت نسخة للموزعين ليتم العرض بحسب التعاقد في موعده في جميع البلاد العربية". في مجلس الشورى الذي هي عضو فيه طالبت مديحة يسري فاروق حسني وزير الثقافة بدعم الإنتاج السينمائي، ذلك بتخصيص 300 مليون جنيه لتأسيس بنك للسينما خصماً من موازنة المتحف المصري الجديد والتي تقدر ب 700 مليون جنيه، وقالت له في المجلس إن"السينما كصناعة تدر دخلاً للدولة أكثر من المتحف وهي تبني الشباب وتحميه من التطرف، فدوت القاعة بتصفيق حاد".