كثيراً ما أشار علماء التاريخ وخبراء الاقتصاد إلى أن هناك علاقة حميمة بين الاقتصاد الأميركي والحروب التي تخوضها الولاياتالمتحدة، خصوصاً الحروب الكبيرة مثل الحربين العالميتين الأولى والثانية والحرب الكورية وحرب فيتنام وحرب النجوم في عهد ريغان. وعبر عن هذه الفكرة وليام نيسكانين أحد مستشاري الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان بالقول أن تجربة الولاياتالمتحدة خلال القرن العشرين، توضح أن زيادة الإنتاج القومي تفوق كثيراً معدل الزيادة في النفقات العسكرية خلال الحروب، ولاحظ أنه خلال الحرب الكورية وحرب فيتنام ارتفع الناتج القومي الإجمالي بمعدل 145 في المئة بينما ارتفع الإنفاق العسكري بمعدل 100 في المئة. وخلص نيسكانين إلى أن المجهود الحربي بإمكانه تنشيط النمو الاقتصادي الضعيف وتجنيب الاقتصاد مخاطر الركود. وبعد حرب الخليج الثانية عام 1991، أعاد التأكيد على هذه الفكرة الخبير الاقتصادي الأميركي ديفيد ميللر بالقول:"في كل مرة نخوض فيها حرباً ينتعش اقتصادنا"، فقد كشفت استنتاجات مكتب المحاسبات الأميركي أن كل دولار دُفع خلال تلك الحرب كان يساوي 8 دولارات إنتاج للصناعات الأميركية. وبعيداً من التاريخ وعامل الأزمات الدورية، وحتمية الحرب لأسباب اقتصادية، فإن مجرد الحديث عن الحرب يترك تأثيرات كثيرة على الاقتصاد بمختلف مستوياته. ويتفق جميع الاقتصاديين على أن الحرب، من لحظة اندلاعها وحتى نهايتها، لا تشكل عاملاً سلبياً على الاقتصاد، بل على العكس تشكل عاملاً مواتياً للاقتصاد، كذلك مرحلة ما بعد الحرب، التي تشكل دائماً فترة نمو اقتصادي لمختلف الناشطين في عملية إعادة الاعمار، وليس بالضرورة اقتصاد المنتصرين فقط. بيد أن ذلك ليس كافياً لتفسير تلك العلاقة الحميمة بين الاقتصاد الأميركي والحروب، فالثابت تاريخياً واقتصادياً أن الحروب تجلب أضراراً بالغة لأطرافها، سواء كانوا مهزومين، أو منتصرين، فكم هي الثروات التي أهدرت والأرواح التي أزهقت والامبراطوريات التي أسقطت بفعل الحروب؟ هذا يؤكد أن العلاقة الحميمة بين الاقتصاد الأميركي والحروب تعزى إلى تمتع الأول بمقومات خاصة عدة: 1- انه يتمتع بحجم ضخم على مساحة شاسعة غنية بالموارد الطبيعية، وبتنوع في الإنتاج زراعي وصناعي، وبسوق استهلاكية مثالية. هذه القوة الذاتية للاقتصاد الأميركي أتاحت لأميركا الصمود في الحروب والقدرة على تحمل كلفتها وأعبائها، في حين افتقدت معظم الأطراف الأخرى التي دخلت أميركا في حروب معها، هذه الميزة. ومن ثم، غالباً ما كانت واشنطن في صفوف المنتصرين باستثناء حرب فيتنام، وبالتالي شاركت في جني ثمار النصر سياسياً وعسكرياً واقتصادياً. 2- أن معظم الحروب التي دخلتها أميركا، باستثناء الحرب الأهلية 1861-1865 وحادث 11 أيلول سبتمبر 2001، كانت خارج أراضيها، وهو ما جنبها مخاطر تدمير وتعطيل مرافقها ومنشآتها الاقتصادية. وفي الوقت نفسه، فإن وقوع أميركا بين محيطين كبيرين الأطلسي والهادي، أعطاها ترف الانتظار حتى تنجلي الأمور وتحسم المعارك، ومن ثم تحديد حسابات الربح والخسارة، فقد دخلت واشنطن الحرب العالمية الأولى بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على نشوبها، وبعد أن أنهكت حروب الخنادق جيوش المانيا، ودخلت الحرب العالمية الثانية بعد مرور أكثر من عامين من اندلاعها وبعد أن تبعثرت جيوش هتلر ما بين وحول أوروبا وثلوج روسيا ورمال شمال أفريقيا. 3- صناعات التسلح الأميركي تقوم عملياً وواقعياً بدور الرائد التكنولوجي الذي يكتشف الآفاق، ويسبق الصناعات المدنية بسنوات، إن لم يكن بعقود، معتمداً على توفير موازنات خيالية مرتبطة ببرامج الأمن القومي، فالحرب الباردة مثلاً كلفت أميركا نحو 16 تريليون دولار، هذا الانفاق العسكري الضخم في مجالات البحوث والتطوير منح المجتمع الأميركي سبقاً بين الأمم في التقدم العلمي والتكنولوجي، وما يصل إلى القطاع المدني من اختراعات الكومبيوتر والاتصالات والانترنت وغيره، ليس سوى الأجيال المتخلفة من هذه الاختراعات مما تقرر صناعة التسلح السماح بانتقاله للسوق المدنية، ودعماً لها في منافستها ضد الأسواق الخارجية الأخرى، لذلك تقوم صناعة التسلح، فضلاً عن دورها الريادي، بتمرير دعم الدولة للصناعات المدنية بطريقة غير مباشرة، وعبر دوران بعيد المدى، أصله دعم الدولة لموازنات برامج الأمن القومي، ومعه تبقى الصناعات المدنية الأميركية متفوقة في منافستها مع صناعات الدول الأخرى. لكن يبدو أن هجمات 11 أيلول سبتمبر 2001، تشكل البداية الفعلية لتفكيك هذه العلاقة الحميمة بين الاقتصاد الأميركي والحروب، لا باعتبارها أول هجوم خارجي تتعرض له الأراضي الأميركية منذ مهاجمة البريطانيين للبيت الأبيض عام 1812، ولا بسبب الخسائر المباشرة التي تعرض لها الاقتصاد الأميركي عقب سقوط البرجين التوأمين والتي تقدر بنحو 100 بليون دولار، ولكن لأن تلك الهجمات، جاءت في ظل متغيرات عدة رتبت تداعيات كارثية على الاقتصاد الأميركي: 1- لم تترك الهجمات للأميركيين ترف الانتظار، فقد اقتضت اعتبارات الكرامة الوطنية والهيبة الدولية لأميركا، الرد على تلك الهجمات وبسرعة، بشن ما سمته واشنطن"الحرب العالمية على الإرهاب"، وهي حرب مفتوحة في الزمان والمكان، وتتحمل واشنطن كلفتها البشرية والمالية بصورة شبه كاملة. وهو أمر مختلف تماماً عن الحروب السابقة. بل إن حرب الخليج الثانية ضد العراق عام 1991 كانت في جزء منها عملية مربحة. فهي تكلفت 36 بليون دولار، في حين حصلت أميركا فيها على 64 بليون دولار، بهامش ربح صافي قدره 28 بليون دولار. ودفعت تلك التكاليف دول الخليج النفطية وألمانيا واليابان. 2- اقتضت ضرورات الحرب على الإرهاب رفع الموازنة العسكرية الأميركية، حتى وصلت هذا العام إلى 517 بليون دولار، وهى تعادل حوالي 50 في المئة من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي. وهذه نسبة عالية ليس بإمكان الاقتصاد الأميركي، توفيرها على المدى الطويل، على رغم أنها لا تمثل سوى 4 في المئة من إجمالي الناتج القومي الأميركي البالغ 14 تريليون دولار، ذلك أن إنفاق ? أي دولة- ما يزيد على 3 في المئة من ناتجها القومي الإجمالي على المؤسسة العسكرية من شأنه إضعاف الاقتصاد وزيادة المشاكل الاجتماعية وتقويض قدرات الدولة على العناية بالضعفاء والفقراء من أبنائها، وعلى رغم أن الإنفاق العسكري الحالي لا يقارن بنظيره إبان الحرب الكورية الذي تراوح بين 13 إلى 14 في المئة وحرب فيتنام الذي تراوح بين 7 و 8 في المئة، لكن أميركا لم تعان وقتها من الديون، بل كانت أكبر دائن في العالم، في حين أنها الآن أكبر مدين، إذ تبلغ الديون الأميركية نحو 60 تريليون دولار، منها 9 تريليونات دولار ديوناً خارجية ثلث هذا المبلغ للصين وحدها، ومعدل الدين عندها يرتفع أكثر من ارتفاع الإنتاج بأربعة أضعاف. واعترف وزير الخزانة الأميركي هانك بولسون في 18/3/2008 بأن الاقتصاد الأميركي يواجه انحداراً سريعاً وتوقع ارتفاع الدين الأميركي من 5 تريليونات عند تسلم الرئيس الأميركي الحالي جورج بوش السلطة أوائل عام 2000 إلى حوالى 10 تريليونات دولار في السنة 2009. وكانت إدارة بوش قدرت التكاليف المحتملة للحرب على العراق بنحو 50 إلى 60 بليون دولار، لكنها تجاوزت الآن أكثر من 600 بليون دولار. وتشير تقديرات جوزيف ستيغليتز الاقتصادي الأميركي الحائز على جائزة نوبل، إلى أن التكاليف العاجلة والآجلة لحرب العراق ستتجاوز 3 تريليون دولار. ويشكو نائب رئيس"غولدمان ساكس انترناشونال"روبرت هورماتس من حقيقة أن كلفة حرب العراق تُدفع عبر إضافتها إلى الدين الخارجي الأميركي، وليس عبر التضحيات الوطنية مثلما جرت العادة في الماضي. وكان عالم اقتصاد أميركي آخر، هو منسق مركز البحوث السياسية والاقتصادية في واشنطن دين بيكار، وجد أن القفزة في الإنفاق العسكري الأميركي المتعلقة ب"الحرب العالمية على الإرهاب"وهي قفزة تصل إلى 1 في المئة من الناتج القومي الأميركي نشّطت الاقتصاد الأميركي في البداية، غير أن تأثيرها أصبح سلبياً بعد أن دخلت الحرب عامها السادس. وقال رئيس"معهد اربان"في واشنطن والمدير السابق لمكتب الوازنة في الكونغرس الأميركي روبرت رايشور:"إن آثار الإنفاق الحربي على الاقتصاد الأميركي أصبحت محدودة لأن الكثير من المال ينفق على سلع وخدمات في الخارج وهذا يحفز اقتصاديات في دول أخرى مثل العراق والكويت والسعودية". 3- قادت الحرب في العراق إلى ارتفاع كبير في أسعار النفط، ملحقة المزيد من الضرر بالاقتصاد الأميركي. فقد كانت أسعار النفط في عام 2003 تصل بالكاد إلى 25 دولاراً للبرميل، وكانت الأسواق تتوقع استقرارها عند ذلك المستوى، لكن الحرب غيرت المعادلة تماماً لترتفع أسعار النفط إلى أكثر من 100 دولار. وفي حال استمرار الارتفاع في هذه الأسعار، فإنها ستكلف الاقتصاد الأميركي نحو تريليون دولار، خسائر مباشرة، خلال خمس سنوات، أما الخسائر غير المباشرة فهي تعني مزيداً من الركود، ذلك أن ارتفاع أسعار البترول يضع البنوك المركزية الكبري في العالم في مأزق، فهي ستضطرها إلى زيادة أسعار الفائدة لامتصاص السيولة النقدية وكبح التضخم، في وقت تسعى إلى تخفيض أسعار الفائدة من أجل زيادة النمو. 4- صاحبت ظاهرة العولمة تغيّرات مهمة. فبعد تجديد نظام التجارة الحرة وحرية تنقل رؤوس الأموال، بدأ الأميركيون استثمار أموالهم في الخارج، حيث العمالة الرخيصة والربح الأعلى، ونتج من ذلك أنه من بعد أن كانت الولاياتالمتحدة تمثل حوالي نصف الإنتاج الصناعي في العالم، أصبحت الآن تمثل ربعه بالكاد، وأصبحت واشنطن تستورد بما قيمته 2 تريليون دولار ويبلغ العجز في موازنتها 2 في المئة من إجمالي ناتجها القومي وتسجل عجزاً تجارياً بنسبة 6.5 في المئة منه، وهي تقترض من الخارج 10 ملايين دولار كل ساعة لتمويل عجوزاتها وحروبها. وفي بداية الفترة الثانية من ولاية بوش بلغ العجز التجاري نحو 412 بليون دولار كما يُتوقع في السنة المالية 2008 - 2009 أن يتجاوز هذا المستوى. وكانت الإدارات الأميركية المتعاقبة تحاول تغطية العجز عبر تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى السوق الأميركية، لكن بعد ظهور العملة الأوروبية الموحدة اليورو وتوسع الاتحاد الأوروبي ليضم 27 دولة 500 مليون نسمة ويصبح سوقاً أكبر من أميركا، بدأت سوق اليورو تجتذب الاستثمارات الدولية وتراجع تدفق الأموال المستثمرة في سوق الدولار، على رغم أن الولاياتالمتحدة لا تزال حتى الآن تجتذب ربع الاستثمارات الدولية البالغة 167 تريليون دولار، في مقابل 36.6 تريليون دولار في الاتحاد الأوروبي، منها 10 تريليون في بريطانيا. 5- شرعت أميركا، عقب أحداث 11 أيلول سبتمبر، في اتخاذ تدابير أمنية جديدة على أراضيها، استدعت إنشاء وزارة للداخلية للمرة الأولى في تاريخها، وما ترتب على ذلك من إجراءات ضاعفت من عدم ثقة المستهلك الأميركي والمستثمر الأجنبي، فالأول بات"متشائما"ً بفعل"سياسات الخوف"التي تروجها الإدارة الأميركية لحشد التأييد للحرب ضد الإرهاب، والثاني عزف عن استثمار أمواله في السوق الأميركية. وتسبب قيام الإدارة الأميركية بتجميد أموال مؤسسات وهيئات عدة بدعوى تمويلها منظمات إرهابية، في هجرة رؤوس أموال كثيرة. كما أن الإجراءات الأمنية والسياسية الجديدة أثرت في شكل واضح في تدفق السياحة إلى أميركا. وعلى رغم أن الإدارة الأميركية وجهت نسبة كبيرة من استثماراتها العاجلة والاستثنائية نحو صناعات الدفاع وهي صناعات متطورة وتحصد أرباحاً طائلةً، إلا أن مردود أرباحها يظل محصوراً في عدد قليل من المستثمرين. وهذه حقيقة أكدها وزير العمل الأميركي الأسبق روبرت رايش الذي أشار إلى أنه تطور في أميركا مجتمعان: الأول يفيد من الاقتصاد المتعولم وحروبه ولا يشمل أكثر من 15 إلى 25 في المئة من الأميركيين. والثاني يضم غالبية وهو يدفع الثمن على شكل خدمة عسكرية، ووظائف أمنية خطرة، وأجور منخفضة، وضرائب مرتفعة. 6- يبقى أخيراً أن الحرب على الإرهاب ليست هي التحدي الذي يوحد الشعب الأميركي ويشد همته، أو يشحذ طاقاته ويحفز موارده، سواء لضعف هذا التحدي أو لتراجع ما يسمي"عتبة التحمل"بسبب تزايد معدلات الفردية والتوجه نحو اللذة، فقد قام الإعلام الأميركي بتفريغ المواطن الأميركي تماماً من أي مثاليات مثل الكرامة وحب الوطن. من هنا بدأ التململ مبكراً من تكاليف الحرب في العراق وأفغانستان. * كاتب مصري.