وانطلقت بنا الطائرة في الفضاء الرحب من مطار "هيثرو" اللندني وحلقت في الأعالي، معلنة بدء الرحلة إلى مدينة ملبورن الأسترالية. أكثر من 20 ساعة من الطيران مررت خلالها فوق قارات وبلدان ومدن وقرى وجبال وبحار وبحيرات وصحارى... وكنت أستقبل شروق الشمس فوق مكان ما، وأودعها في مكان آخر. وعندما باشرت الطائرة الهبوط في مطار ملبورن الدولي، ارتسمت علامات السعادة على وجوه الجميع، وعزفت أغنية وطنية رائعة للمغني الأسترالي"بيتر ألن"يقول مطلعها:"ما زلت انادي استراليا بلادي"I still call Australia home، التي شارك بإنشادها معظم ركاب الطائرة. وعلى رغم عدم سماعي للأغنية سابقاً شعرت كأنني سمعتها مراراً، لأنها أغنية تتميز بكلماتها الحنون ولحنها الشجي الذي يعدكم بأن عطلتكم في ملبورن ستتكرر سنة بعد أخرى. اليوم الأول حطت الطائرة في مطار ملبورن الدولي، وبقينا قابعين في أماكننا لغاية الإنتهاء من رش الطائرة بالمبيدات القاتلة للجراثيم والأوبئة. فأستراليا قارة نائية، وتولي الحكومة أهمية كبيرة لإبعاد الأمراض والأوبئة عن أرضها. كثيرون هم الذين كانوا ينتظرون أهلهم وأحباءهم في بهو المطار، أما أنا فكان بإنتظاري سائق التاكسي لينقلني إلى الفندق. كانت الشمس قد بدأت تنثر أول خيوطها الذهبية في سماء ملبورن عندما كنت في طريقي إلى الفندق. وتعجبت لوجود مساحات شاسعة غير مأهولة، وتساءلت عن عدد المهاجرين الذين قطعوا تلك المسافات ليجعلوا من استراليا وطناً جديداً لهم. وبين فكرة وأخرى أطلت علينا مدينة ملبورن بأبنيتها الشاهقة، وطبيعتها الساحرة، وهي تستعد لاستقبال صباح جديد، فالساعة كانت السابعة صباحاً. جمال ملبورن أبعد عني النعاس وتعب السفر، إذ وقفت أتأمل المدينة وضواحيها من نافذة غرفتي الواقعة في الطابق السابع والعشرين من فندق"كراون تاورز"الذي يعتبر تحفة رائعة في عالم البناء والهندسة. كل غرفه الفخمة تشرف إما على المدينة، أو على خليج"بورت فيليب"، وهذا يعطيكم فرصة الاستمتاع بملبورن التي يلامس جمالها القلب والروح بإيقاع رومانسي بإمتياز. شدتني تلك المناظر الحلوة للقيام بنزهة قصيرة بالقرب من الفندق، فدخلت منتزه يارا Yara Park الذي يضم ملعباً للكريكيت، وأقدم شجرتين كان يستخدم السكان الأصليون لحاءهما لصنع القوارب. وفيه التقيت حيوانات البوسوم والكنغر والكوالا وأقتربت منها وكان لها حصة كبيرة من الصور. تجولت في أرجاء المدينة قليلاً وشاهدت الحياة وهي تدب في ذلك الصباح في ثاني أكبر مدن استراليا بعد سيدني. وأنا في طريقي إلى الفندق صادفت مطعماً لبنانياً صغيراً لتحضير الوجبات السريعة، فما كان علي سوى الدخول إليه وتناول طعام الإفطار فيه: منقوشة لبنانية بالزعتر وزيت الزيتون، كانت بالفعل شهية وأنا أتبادل الحديث مع ذلك الشاب الذي أحضرها لي وهو يخبرني عن هجرته من لبنان إلى استراليا. تركت رائحة الزعتر والخبز الطازج وعدت أدراجي إلى الفندق للإستراحة قبل أن يبدأ برنامجنا السياحي في ملبورن. ما ان قاربت الساعة الواحدة ظهراً حتى كان علي الإنضمام إلى الوفد الصحفي والإجتماع بالمسؤولين عن ترويج السياحة في ملبورن. ففي الفندق كان اللقاء لننطلق معاً إلى أبراج"ريالتو"Rialto Towers التي تعتبر أطول مبنى للمكاتب في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية، ويصل إرتفاعها إلى حوالي 253 متراً. وقفت هناك، فانبسطت أمامي مدينة ملبورن بأبهى مناظرها، وسرح نظري إلى البعيد فشاهدت أكثرية مناطق ولاية فيكتوريا التي تذخر بالعديد من الخصائص المتميزة والمعالم الجغرافية المتنوعة، وشاهدت أيضاً"ساحة الإتحاد"Federation Square التي قصدناها لتناول طعام الغداء في مطعم"تشوكلات بودا"الشهير بتقديم المأكولات اليابانية والكورية، وليس الشوكولا كما يظن بعضهم. بعدها كان لنا جولة في هذه الساحة التي تضج بالحياة والحركة وتتسم بروح المستقبل الذي يتجلى في الأعمال العمرانية المعطفة على جانبيها لتعطيها وجهاً متجدداً وعصرياً. وما أن هبط الليل حتى استيقظت ملبورن بنواديها الليلية، وأماكن اللهو فيها التي لا تحصى ولا تعد. أما نحن فأمضينا أمسيتنا في مسرح"جلالة الملكة"Her Majesty's Theatre الذي لا يزال يذهل الجماهير بعروضه الفنية منذ أكثر من 120 عاماً. حوالي الساعتين قضيتهما في هذا المسرح، انتقلت خلالهما إلى عالم جميل مفعم بالألوان البهية، والموسيقى الصاخبة، واللوحات الفولكلورية التي تؤنس القلب والروح. اليوم الثاني جميل أن تستقبل الصباح وأنت في استراليا. فالشمس تطل عليك كل يوم بنورها الفرح ودفئها الذي يغمر تلك القارة الواسعة والبعيدة، ويجعل منها أكثر إشراقاً وتألقاً. كان برنامج ذلك النهار المشمس الرحلة إلى الثلج. نعم الثلج في ولاية فيكتوريا الاسترالية! وبدأ المشوار إلى جبل"بولر"Mountain Buller الذي يبعد حوالي 3 ساعات بالسيارة عن شمال شرقي ملبورن، وهو من أهم المنتجعات الاسترالية لممارسة رياضة التزلج،. وكم دب الحماس في قلوب بعض الصحافيين الذين كانوا يتشوقون للقاء الثلج للمرة الأولى. وما ان أقتربنا من ذلك المكان حتى أطل علينا الثلج ببياضه الناصع، عندها تعالت صيحات الفرح من قبل الجميع: وأخيراً ها هو الثلج! نسيت أنني في أستراليا فور وصولي هنا. فهذه القارة معروفة حول العالم برياضاتها البحرية وليس بالثلج والتزلج. أمضينا ساعات طويلة في المنتجع أطلقنا العنان للضحك وروح المغامرة: التزلج، ركوب الخيل، التراشق بكتل الثلج... كل ذلك كان على أرض جبل"بولر"قبل أن نعود أدراجنا إلى ملبورن، حيث توجهنا إلى حوض ملبورن للأحياء المائية Melbourne Aquarium، الذي يحتضن أشكالاً غريبة من الأسماك والحيوانات المائية. ثم دخلنا حديقة ملبورن للحيوان Melbourne Zoo حيث استقبلتنا المسؤولة عن الحديقة وأخبرتنا عن تاريخ افتتاحها عام 1862، وتصنيفها ضمن أفضل خمس حدائق للحيوان في العالم. وهل يعقل زيارة ملبورن من دون استخدام تراماتها الصغيرة الملونة؟ وبالفعل، طفنا المدينة على متن عربة الترام المعروفة ب"كولونيال ترامكار رستورانت"Colonial Tramcar Restaurant وهو مطعم فاخر يقدم أطيب الوجبات أثناء رحلته وسط مدينة ملبورن المدهشة، حيث تستقبلكم بكنوزها المختبئة بالأزقة الجانبية المتفرعة من شوارعها الرئيسية. وخلال رحلتنا الليلية مررنا بأهم مناطق المدينة السياحية القديمة مثل"فيتزروي"و"سانت كيلدا"و"جنوب يارا"و"ريتشمند"، وهي مناطق تحافظ على اسلوب البناء الفيكتوري الذي كان سائداً منذ أكثر من 200 عام. ونحن في طريقنا إلى الفندق، فاجأتنا المفرقعات والألعاب النارية التي كانت تضيء سماء ملبورن وترسم في فضائها الرحب ألواناً فرحة. وعلمنا عندها أن فندق"كراون تاورز"غالباً ما يقيم مثل هذه الاحتفالات ليضفي على ليل المدينة الفرح والحبور. اليوم الثالث كان برنامجنا في ملبورن حافل بالنشاطات السياحية والترفيهية. وخصص اليوم الثالث لزيارة"سوفرين هل"Sovereign Hill في بلدة"بالارت"التي تبعد حوالي 90 دقيقة بالسيارة عن وسط المدينة. الرحلة إلى هنا ستأخذكم حتماً إلى الماضي، إلى عام 1850 تاريخ إكتشاف الذهب في هذا المكان ما حوله من ريف هادئ إلى نقطة جذب لأعداد هائلة من السياح يومياً. عشت الماضي في"سوفرين هل"بكل تفاصيله، وبالأخص عندما انتقلت على متن عربة تجرها الخيل للتعرف على منجم تحت سطح الأرض، وشاركت بالبحث عن الذهب. بعدها توجهت إلى حديقة"بالارت"للحياة البرية التي تؤوي الحيوانات الاسترالية في بيئة طبيعية جميلة. وكأن يومنا الثالث في ملبورن كان مخصصاً للذهب والأموال، لأن محطتنا الثانية كانت زيارة متحف وزارة المالية القديمة Old Treasury Museum وهو من أجمل مباني المدينة، وكان يستخدم منذ القرن التاسع عشر ولغاية عام 1992 كمكاتب للحكومة في ولاية فيكتوريا، ثم تحول عام 1994 إلى متحف لعرض تاريخ ملبورن، وذلك في قسميه المعروفين ب"متحف خزينة الذهب"و"خزينة المال القديمة". وملبورن هي جارة البحر، فأينما إتجهتم ستكونون إما بالقرب من مياه بحرها الدافئ، أو وجهاً لوجه مع نهر"يارا"الذي كان سببا في اختيار المنطقة كأولى المستوطنات التي أقامها المستوطنون الأوروبيون الأوائل في القرن الثامن عشر. قمنا برحلة مائية في نهر"يارا"على متن السفن المعروفة بإسم"ملبورن ريفر كروز"Melbourne River Cruise، وشاهدنا الوجه الآخر من المدينة. فملبورن لا تخفي جمالها على أحد، سواء شاهدتها من الجو أو البحر أو البر. وما ان باشرت الشمس رحيلها عن المدينة، حتى كان موعد لقاؤنا مع جزيرة"فيليب"Phillip Island لمشاهدة أشهر إستعراض عالمي لطيور البطريق، ومستعمرة عجل البحر. فكل يوم عند غروب الشمس، تتمايل طيور البطريق الأصغر حجماً في العالم عبر الشاطئ الرملي لتتجه إلى جحورها في الكثبان. استمتعت كثيراً بتلك الإستعراضات ودهشت بطريقة عيش تلك الطيور وكيفية تنظيم حركتها وفقاً للزمان والمكان. أينما حللنا في ولاية فيكتوريا، كان لا بد من العودة إلى ملبورن التي تبعد حوالي 90 دقيقة بالسيارة عن الجزيرة، ومرتبطة بها عبر جسر تنشط عليه الحركة خلال ساعات المساء لمشاهدة إستعراض البطريق. اليوم الرابع قال لي المرشد السياحي في يومنا الأخير في استراليا:"إذا لم تستطع الشراء في ملبورن، فإنك لن تشتري من أي مكان آخر". ولما سألته عن السبب، قال لي انه خلال جولتك في شوارع ملبورن التجارية ستتأكد من صحة ما أقول. وملبورن هي مركز عالمي للتسوق، فعلى أرضها دخلت إلى مراكز"رويال اركيد"Royal Arcade، و"بلوك اركيد"Block Arcade لشراء المنتجات الفاخرة ذات الجودة العالية والأسعار التنافسية. وتوجهت أيضاً إلى شارعي"تشابل ستريت"Chapel Street و"ليتل كولينز ستريت"Little Collins Street لشراء المجوهرات المزينة بحجر الأوبال الأسترالي الشهير. وعندما حان وقت الرحيل والعودة إلى لندن، اختلجت في نفسي ووجداني الأحاسيس والمشاعر. فملبورن هي مدينة حالمة، وهادئة وتضج بكل مباهج الحياة ومفاتنها. تعطي كل من يزورها إحساساً كبيراً بأنه في بلده وبين أهله واصدقائه. تزورها مرة، فتحن للعودة إليها مراراً. في مطارها تكررت المشاهد نفسها التي لمستها عند وصولي، وإن كانت بإيقاع محزن بعض الشيء: أم تودع ولدها، أب يودع عائلته، شاب يودع أصدقاءه... أما أنا فودعت سائق التاكسي وغادرت المدينة تاركاً خلفي شعباً طيباً ودوداً، وآلاف المهاجرين الذين يحنون ويحلمون كل يوم بالعودة إلى ديارهم.