كان يوماً حافلاً بالفن، بدأ بمتحف تريتياكوف، أمام شباك التذاكر. بعد أن دفع مرافقي 200 روبل قيمة تذكرتي دخول أطالت موظفة التذاكر نظراتها في وجهي متفحصة، تتحقق أنني لا أنتمي الى هذا البلد، بالميلاد أو التجنس. سألت رفيقي إن كنت روسياً، إذ انتبهت إلى أن الواجب يحتم دفع تذكرة الزائر الأجنبي، كانت 250 روبلا لي، ومئة روبل لزميلي الروسي السوري الأصل. 120 ألف قطعة فنية يضمها المتحف الكبير، يحتاج المرء إلى شهر لو أراد الوقوف دقيقة أمام كل لوحة وتحفة فنية. عشرات الآلاف من اللوحات على العين أن تراها بسرعة... جنرال بشاربين مفتولين، ودموع تكاد اللوحة أن تتركها تتساقط من الإطار، جداريات ضخمة لمعارك وصلوات وتقاسيم حياة، أم تنتظر، طفل يكاد يُنطق اللوحة بصفاء نظراته. تشكل المعروضات تاريخاً أميناً لواقع الحياة الروسية خلال القرون الثلاثة الماضية، مؤرشفة مشاهد الحياة الإنسانية البسيطة، والأحداث المحورية في تاريخ روسيا، القاعات الأولى ضمت مئات اللوحات"البورتريه"لفنانين وموسيقيين وكتاب ومفكرين وفلاسفة، هناك تماثيل نصفية من المرمر لمبدعين أثروا الحياة الروسية فناً وفلسفة وشعراً... ثم ذهبنا الى ضفة النهر حيث يعرضون إبداعاتهم، حملت في كفي رؤية بسيطة للمكان... البرد يجمّد ما يستطيعه من الأجساد السائرة بجوار النهر، كانت الالتفاتات واسعة لرؤية ما يمكن أن تقتنصه العين فتسجله، مصنع الشوكولاتة يبعث في الفضاء أدخنته فتبدو في الطقس البارد سحبا تخرج من أنبوبين ضخمين فوق سطح المصنع. كان البحار العظيم يطل من ارتفاعه المذهل، يقف بطرس الأول بحذائه الضخم فوق سفينة مثلت رمزاً لما أنجزه، أنشأ أول اسطول بحري في روسيا، التمثال من أهم معالم موسكو، حيث يلتقي ضلعا النهر، يشمخ التمثال الكبير لهذا القبطان. تحت الشمس المشرقة تركناه يقف، كان المكان متجلياً بعظمة التاريخ الموسكوفي. بعض البياض تركه الثلج مع امتداد تضمن معرضاً مفتوحاً للفنون التشكيلية، آلاف اللوحات تعرض في المكان الفسيح. الفنانون يعرضون إبداعاتهم، معارض صغيرة متراصة. الطقس حافل بالمفاجآت، خلال نصف ساعة لم تعد الشمس تسكب أشعّتها، بدأت نُدفُ الثلج تتساقط صغيرة، طارت روحي اشتياقاً لرؤية حلمية في أن أسير تحت الثلج، أن أشبه أحد أبطال تشيخوف يسير في موسكو تحت الثلج والبرد، قطع الثلج تضرب الوجه بقسوة، تقول للعابر خذ ما تشتهي من حلمك القديم، ها هي الأرض لوحة بيضاء والنهر يعبر بمياه تبدو كأنها الدفء في ذلك الطقس الجليدي. قال مرافقي: إنه في الشتاء يمكن السير على النهر، قشرته تتجمد بعمق 30 سنتمتراً تقريباً، يمشي الماء المختفي تحت الجليد كأنه يضن على البشر برؤية الماء في طقس تبدو فيه أطراف المرء كأنها ليست له. قال مانع الكثيري: إن من زار موسكو ولم يجرب مترو الأنفاق فيها فكأنه لم يزرها. ربما لا يتصور سكان العاصمة حياتهم من دون مترو الانفاق هذا، فهو متحف ورمز تاريخي، ويشكل عنصراً مهماً في نسج الحياة اليومية لسكان موسكو وزوارها. عشرة ملايين راكب يستخدمونه يومياً. مترو أنفاق موسكو، المكان الذي يقال إنه متحف تحت الأرض، لكن ما اكتشفته بعيد عن تصورات المخيلة. وقفت في طرف السلم الكهربائي فرأيته هابطاً إلى ما يشبه الحفرة العميقة جداً، تصورت أن كلمة"بئر"في حياتنا تغدو مفردة صغيرة أمام هذا العمق، لا يمكن تصور أن يكون تحت كل هذه المسافة وفي باطن الأرض آلاف البشر يتنقلون يومياً، وعشرات المحطات التي تعد كل واحدة منها تحفة فنية، كلمة تحفة تبدو بسيطة أيضاً إزاء تلك الروعة العمرانية لكل محطة، لا تتشابه أي محطة مع الأخرى، المحطة تقف وحدها لوحة راقية دالة على ملامح من التاريخ الروسي، قديمه وحديثه، كأنها فريدة دون سواها في خارطة شبكة المترو، عندما ترى غيرها تنسى الأولى وجمالها منشغلاً بروعة الأخرى، الأعمدة والجدران والأسقف والرخام واللوحات والتماثيل والثريات المعلقة والأضواء، جميعها مشغولة بفن مبهر، تنسى أيضاً أنك على عمق 150 متراً حيث تسير المدينة وكأن لا شيء أسفلها... كأنها لا تسير فوق متاحف قد لا تشغل العابر كثيراً، لكنها كافية لإعطاء درس في فن الجمال... مترو الأنفاق في موسكو تأسس في بدايات القرن العشرين. عام 1901 وضع مهندس يدعى انطونوفيتس لبنة الخطط لبناء المترو لكن الظروف أجلت المشروع حتى ثلاثينات القرن. وظهر النفق الأول عام 1931 في حي يسمى بوساكوفسكوي. ثم تواصل العمل ليل نهار حتى عام 1935 الذي شهد افتتاح 13 محطة أبوابها للركاب. وشهدت فترة الخمسينات ذروة العمل حتى بلغ طول خطوطه 260 كيلومتراً. في الحروب لعبت محطات المترو دوراً حيوياً. كان ستالين يعقد اجتماعاته في إحدى هذه المحطات خلال الحرب العالمية الثانية، في تلك الفترة تحولت المحطات الى ملاجئ، وعربات المترو الى مستشفيات متنقلة، وفي بعضها عمل الصنّاع على إنتاج أسلحة وذخائر ترسل الى جبهات القتال.