سارت معه تحت المطر المنهمر وآخر ضوء رمادي لهذا النهار. كانت في معطفها الرمادي مثل صورة غائمة لسيدة عادية متوسطة الجمال والعمر غرقت في الماء. تراقبه بطرف عينها وهو يظلل رأسه بالمظلة وينظر الى الأمام كمن يسير وحده. تُحكم الإيشارب حول وجهها وتعلّق نظراتها بصخور الشاطئ والأمواج تضربها. - هل يبعد البيت كثيراً؟ - لا... سيأتي صديق عند المحطة... هناك. جلسا عند محطة تعلوها مظلة كبيرة، وكانت السيارات القليلة تعبر أمامهما ببطء غارقة في المياه. فكرت على نحو غامض أنها رأت هذا الشاب من قبل... أحكمت معطفها حول جسدها وهي تنظر إلى حذائه الفاخر وتحاول أن تتذكره. قال: لن ينقطع المطر هذه الليلة. - المطر!! تمتم لنفسه: لقد تأخر. انقطع التيار الكهربائي وأصبح الكورنيش مظلماً تتحرك فيه أخيلة قليلة لأجساد عابرة. راح يحاول إشعال عود من الثقاب وسط الرذاذ والهواء, كانت تراه بطرف عينها، السيجارة تتدلى من فمه وفص من الياقوت الأحمر يلمع في إصبعه تحت شعلة الثقاب. فكرت أنها رأت ذلك الفص الأحمر من قبل، وكان ثمة شعور يتسلل إليها ويشبه الغضب فراحت تراقبه محاولة تذكر أي شيء يدور حوله. خمنت أنه ربما تسبب في إيذائها يوماً ما، ربما كان من زبائنها القدامى. حدقت به طويلاً... كان شعره المجعد قليلاً والكثيف يغطي نصف جبهته الضيقة من الجانب، عينه اليسرى تتحرك سريعة في محجرها، أنفه يتدلى بلطف فوق شارب صغير. - أأنت أم صاحبك؟ - صاحبي يملك المكان. - في المكان ستائر؟ - ستائر!! - لا يهم. كانت الحافلات القليلة تتوقف أمامهما وينزل منها أناس سرعان ما يختفون في الشوارع المظلمة، تحدق بالركاب الذين يختفون خلف زجاج النوافذ الغائمة بفعل المطر وتشعر بأنها غير مرئية. - لي صديقة فقدت إحدى ساقيها - ... - كنا نسير معاً على هذا الكورنيش - ... - كانت تسبقني دائماً في السير - ... كان يتململ في جلسته، وحين توقفت إحدى الحافلات كان قلبها يدق بعنف وهي تتذكر ساق صديقتها المبتورة. فُتحت إحدى نوافذ الحافلة وأطل منها رأس امرأة شاحبة الملامح، والتقت عيناها بعينيها, ابتسمت السيدة والحافلة تغادر المحطة ببطء. وابتسمت لها وهي تهمس لنفسها بشيء ما. - سيفسد المطر حذاءك - ... - إنني أحافظ على أحذيتي كثيراً - ... أفلتت منها ضحكة باهتة وقالت: - صديقتي تلك كانت تهوى الأحذية الحمر - ... - تلك الساق الوحيدة... ال ...!! قطع كلامها بسرعة قائلاً: تعالي أمسك بذراعها وهرول ناحية سيارة وقفت مبتعدة قليلاً. راحت تهرول معه وعلى شفتيها بقية من كلمات، وكانت تلهث كمن قطع مسافة طويلة... ضربات قلبها تضرب في أذنيها وهواء يصفعها.