يتحدث اللبنانيون هذه الأيام عن ظاهرة انتشار الاسلحة والاتجار بها ويلفت كثيرون الى أن هذه الظاهرة تشكل مقدمة لاشتعال جولات من الحروب في ظل الانقسام السياسي الطائفي الحاد الذي تشهده الساحة اللبنانية."الحياة"أعدت تحقيقاً عن هذه الظاهرة. والتقت تجار أسلحة وناشطين حزبيين ومدنيين كشفوا ان سوق السلاح في لبنان يعاني ضائقة لجهة شح في الذخائر وان الطلب على السلاح تضاعف في الاحياء التي شهدت اضطرابات في الآونة الاخيرة. يستضيف علي يومياً في مكتبه الكائن على الطريق العام الذي يفصل منطقتي الشياح وعين الرمانة في الضاحية الجنوبية الشرقيةلبيروت، صديقه وجاره جان المقيم في زقاق متفرع عن الشارع العام. يتحدثان بحذر في كل ما يجري في البلد لجهة الاحتقانات الطائفية والمذهبية. علي مؤيد ل"حزب الله"، وجان مقاتل سابق في"القوات اللبنانية"وما زالت تربطه بها مشاعر واعتقادات. اشترى علي أخيراً قطعة سلاح من نوع كلاشنيكوف، ويقول إن دافعه الى شرائها شعوره بأنه يعمل في منطقة غير آمنة، وان انتقاله من مكتبه الى منزله في الضاحية الجنوبية لبيروت قد يتطلب في لحظات الاحتقان سلاحاً لكي يصل سالماً إلى اولاده. يشير إلى عدد من الأحداث التي وقعت بالقرب من مكتبه بين شبان شيعة وآخرين مسيحيين في المنطقة، ويقول إن تطور هذه الحوادث امر ممكن، وفي هذه الحال تصبح حيازة رشاش لا بد منها. يروي علي هذه الوقائع والاستنتاجات على مسامع صديقه جان الذي وافقه على كل ما قاله، وكشف انه هو ايضاً اشترى كلاشنيكوف ووضعه في دكانه القريب من مكتب علي. وعند هذا الاعتراف المتبادل بضرورة اقتنائهما السلاح تتحول صداقة الشابين إلى أمر تقني. فعلي المؤيد ل"حزب الله"من المفترض انه اشترى سلاحاً تلبية لمخاوف يثيرها فيه الانتشار الكثيف لمناصري"القوات اللبنانية"في منطقة عين الرمانة، أما جان فقد فعل بدوره ذلك لخوفه من احتمال تقدم شباب شيعة مؤيدين ل"حزب الله"إلى منطقته في حال الصدام. تستبطن علاقة علي وجان الكثير من وجوه العلاقات التي تربط بين سكان منطقتي الشياح وعين الرمانة. جيرة مترافقة مع حذر، واحياناً مودة يحولها الاحتقان الطائفي الى ريبة. لكن الغريب في هذه العلاقة اعتراف طرفيها بعضهما للآخر بضرورة اقتناء سلاح في مواجهة مخاوف يثيرها في كل واحد منهما تسلح الآخر. تضاعفت اسعار الأسلحة في لبنان كثيراً في الآونة الأخيرة. يجمع على ذلك كل من تلتقيهم من الباعة والمشترين. وسبب ذلك طبعاً زيادة الطلب على شراء مختلف الانواع. لكن الغريب بالنسبة الى مراقب قرر الاقتراب من ظاهرة الاتجار بالأسلحة في لبنان يتمثل في السهولة التي من الممكن لراغب في اقتناء سلاح ان يحقق بها رغبته. ستكتشف انت المنغمس في شؤون الحياة اليومية وفي دوامتها ان معظم من حولك اقتنى سلاحاً. اللبنانيون يحبون السلاح على ما يبدو، وليس الاحتقان السياسي والطائفي دافع معظمهم الأول الى اقتنائه. تشعر جراء اقتفائك اثر السلاح، ان هذا الأخير موجود في الوعي اللبناني وربما كانت الأزمة الراهنة فرصة لتثبيت هذه العلاقة بالسلاح، او لتوظيفها ليس اكثر. اذ لطالما سيجيب من اشترى سلاحاً في المرحلة الأخيرة حين تسأله عن السبب بأنه يحب اقتناء السلاح، او انه يشعر بالأمان في منزله او مكتبه اذا كان في حوزته سلاح. تجار السلاح كثر، وهؤلاء ليسوا بالضرورة معروفين بصفتهم تجار سلاح. لمعظمهم اعمال أخرى يقومون بها، وعدد كبير منهم تحول من هاوي اقتناء سلاح الى تاجر من دون ان يدري. فأثناء تبديله قطع الأسلحة التي يقتنيها والتي تلبي مزاجه، وشرائه الجديد منها او القديم، تحول تاجراً للأسلحة. عدد كبير ممن التقتهم"الحياة"بصفتهم هواة اقتناء اسلحة، خلصت الى اقتناع بأنهم تجار. اما الصنف الثاني من التجار، فهم من امراء الشوارع السابقين الذين سبق ان انخرطوا في الحرب اللبنانية بين العامين 1975 و1989، واحتفظوا بكميات من الأسلحة الفردية مكنتهم من البقاء في"السوق"، وخلال سنوات السلم استمروا على نحو متفاوت بوظيفتهم على رغم بعض الصعوبات، وعلى رغم تراجع الطلب في فترات طويلة. يرفض الكثير من تجار الأسلحة في بيروت ربط ازدهار تجارتهم باحتمالات اشتعال حرب اهلية في لبنان. يقول عفيف"ان هذه التجارة موجودة اصلاً قبل حال الاحتقان ونحن لا نبيع لأحزاب وتنظيمات. زبائننا افراد هواة، وبعض المتحمسين الذين لا يستطيعون اشعال حروب". ويشير عفيف وآخرون ممن التقتهم"الحياة"الى ان المؤشر الرئيس الى عدم توافر الظروف لاشتعال الحرب على رغم انتشار السلاح على نحو واسع، يتمثل في شح الذخائر، وتؤكد مصادر امنية لبنانية ان الذخائر التي بحوزة المجموعات المسلحة في الأحياء والشوارع بأستثناء حزب الله لا تكفي ليومين من الاشتباكات. يبلغ سعر طلقة رشاش الكلاشنيكوف اليوم 1000 ليرة لبنانية، وسعر طلقة ال"ام 16"دولار اميركي 1500 ليرة لبنانية. وعلى رغم ارتفاع اسعار الطلقات، يؤكد التجار ان من الصعب العثور على ذخائر للرشاشات المتداولة في السوق هذه الأيام. وتقصي هذه الأشارة وسط الزبائن ممن اشتروا سلاحاً يؤكد صحتها على رغم انه لا يشعر بأنها اشارة طمأنة كافية. فالذخائر قليلة من دون شك، ولكن المقبلين على شراء السلاح من اللبنانيين، اذا ما تم توزيعهم على الأعمار والجماعات والمناطق نخرج بخلاصة مفادها اننا حيال جولات حروب محتملة. فالمناطق التي تشهد إقبالاً اكثف من غيرها من المناطق على شراء الأسلحة، والجماعات التي لم تشارك في الحرب"السابقة"تستلحق تأخرها بالتزود بالأسلحة وبالالتحاق بدورات تدريب سريعة. اما الجماعات التي حملت السلاح في الماضي وسلمت بعضه او معظمه في بداية تسعينات القرن الفائت، فابقت على كميات متفاوتة منه، وهي اليوم اقدر من غيرها على تنظيم مجموعات في الأحياء والمناطق التي تشهد توترات. اما تجار الأسلحة فيملأون الفراغات التي تتركها هذه الحقائق. فالتسلح يحصل افقياً وقاعدياً، وتجمع الأحزاب على ان لا قرار مُتخذ بتسليح عناصرها على رغم ان ذلك يتم تحت اعين الناس والقوى الأمنية والعسكرية. يقول صلاح وهو قائد عسكري سابق في أحد التنظيمات التي شاركت في الحرب اللبنانية 1975 - 1989 ولم يقطع صلته بعالم السلاح والتسلح انه يقدر عدد المسلحين غير الشرعيين من عناصر حماية قيادات الصف الأول والثاني في قيادات المعارضة والموالاة بأكثر من عشرة آلاف عنصر. فقيادي الصف الأول لن يشعر بالأمان في هذه الظروف من دون ان يكون محاطاً في الأماكن المتعددة التي يرتادها بأقل من 500 عنصر مسلح منتشرين حول منازله ومكاتبه والسيارات التي يتنقل فيها. ويشير الى ان معظم اسلحة هذه العناصر تم شراؤها أخيراًً من السوق اللبنانية، خصوصاً ان جزءاً منها حديث الصناعة ويلبي مهمات امنية لم تكن مطروحة على اسلحة الأعوام الفائتة، كالرشاشات ذات المناظير الليلية، او تلك الصغيرة والشديدة الفعالية. والظروف الأمنية الصعبة التي يكابدها معظم قادة الصف الأول دفعت بهم الى مزيد من الاهتمام بالتقنيات الحديثة ومن البحث عنها في السوق اللبنانية. ويعتبر ان هؤلاء وحدهم من دون المناصرين المسلحين يمكن اعتبارهم نواة حرب مقبلة. اما كيف وصلت هذه التقنيات والأسلحة الرشاشة الحديثة الى لبنان فيؤكد معظم التجار الذين التقتهم"الحياة"ان العراق كان المصدر الرئيس لها، وانها وصلت عبر التهريب بكميات قليلة، وحملتها شاحنات كانت تنقل بضائع عادية. علماً ان هذا النوع من التهريب توقف بعد ان تزودت المعابر الحدودية اللبنانية أخيراً بآلات"سكانر"حديثة. ومن بين الأسلحة التي وصلت من العراق رشاش"ام 4"وهو من عائلة ال"ام 16"لكنه اصغر حجماً ويحتوي قاذفاً ومنظاراً ليليا،ً ويبلغ سعره نحو 4 آلاف دولار، ورشاشات دراغونوف ويبلغ سعر الواحد منها نحو 1000 دولار، ومسدسات نمسوية الصنع من نوع"غلوك"يبلغ سعر المسدس الواحد نحو 2000 دولار اميركي، علماً ان هذه المسدسات منتشرة في بيروت على نحو كثيف. ويؤكد تاجر في بيروت ان هذه الأسلحة لها زبائن محددون، وهم اما زعماء سياسيون يشترونها لعناصر حمايتهم او هواة مقتدرون على شرائها. ولا يبدو ان ثمة اسلحة ثقيلة او متوسطة في السوق اليوم بأستثناء ما في حوزة حزب الله. طبعاً ثمة احزاب ما زالت تحتفظ بعتاد قديم، اما الذخائر التي من المرجح ان لا تبقى صالحة طوال مدة التخزين التي من المفترض انها اكثر من 15، فلا يعلم احد من التجار ما اذا كانت هذه الأحزاب قد وجدت بدائل لها، او ما اذا كانت تبحث عن بدائل. هذا الكلام يستثني"حزب الله"، كون الأخير يمتلك معظم انواع الأسلحة والذخائر الثقيلة والخفيفة. وتنفي مصادر امنية لبنانية ان يكون"حزب الله"اقدم حتى على توزيع اسلحة على حلفائه في المعارضة، على رغم انها لاحظت انتشاراً"محدوداً"لأسلحة رشاشة بين ايدي عناصر احزاب حليفة له. ويقول تاجر اسلحة في احدى المناطق الشرقيةلبيروت انه لاحظ وجود بنادق كلاشنيكوف حديثة الصنع لدى بعض الناشطين، وقال انها ايرانية الصنع بينما قال زميل له انها صينية وانها ُوزعت على نحو محدود ووصلت الى أيدي مناصري جهة في المعارضة في صناديق يضم الواحد منها قطعتي سلاح و400 طلقة نارية وقنبلتين يدويتين. ويشير هذا التاجر الى انه في المقابل رصد توزيعاً لرشاشات كلاشنيكوف قديمة في اوساط جهة في الموالاة، ولفت الى ان هذه الجهة اشد تنظيماً وقدرة على استعمال السلاح من غيرها. يتراوح سعر الكلاشنيكوف الواحد بين 600 و1000 دولار اميركي بحسب جودته والدولة التي صنعته. والكلاشنيكوف اكثر توافراً من غيره في السوق، لكن جان يؤكد ان الكثير من الطلقات المتداولة لهذا السلاح في السوق غير صالحة نظراً الى تخزينها فترات طويلة، لكنه يشير الى طلقات جديدة صناعة سورية يبلغ سعر الطلقة الواحدة منها نحو 800 ليرة لبنانية. يقول صلاح ان سلاح إشعال الحرب في لبنان لم يأت بعد، على رغم يقينه من نيات بعض امراء الحرب السابقين الذين كان واحداً منهم لدفع الأوضاع بأتجاه إشعالها. يقول:"اعرف هؤلاء جيداً، ما زال بحوزتهم سلاح، واقبال الاطراف الأخرى على التسلح سببه خوفهم من حيازة هؤلاء سلاحاً". اما اسعد شفتري وهو كان على رأس تنظيم مسلح اثناء الحرب ويعمل اليوم على"محاولة تفادي حصولها"فيقول:"لا تحتاج الحرب لكي تشتعل اكثر من الأسلحة الموجودة. اشتعالها كفيل بأستدراج جهات لتزويدنا بما يكفل استمرارها. انا لست متفائلاً وارى ان الأجيال الجديدة تكرر ما قمنا به في عام 1975. ففي ذلك العام لم نكن نملك اسلحة كافية، وقمنا كأفراد بشراء الأسلحة. لا يكفي ان تكون الذخائر شحيحة لكي نتفاءل". ويلاحظ شفتري ان القيود القانونية على اقتناء السلاح غير فعالة، والأحكام القضائية التي تصدر بحق حائزي الأسلحة والمتاجرين بها غير زاجرة، بالإضافة طبعاً الى اعتقاده بأن السلاح الفردي سريعاً ما ينخرط في السلاح الجماعي ويؤلف محمية اسلحة غير شرعية. علي لم يلاحظ اقبالاً كبيراً على شراء الأسلحة في الوسط الشيعي اللبناني، غير انه يفسر ذلك بأن الدافع السياسي لم يضف، في الحال الشيعية، على الدافع الشخصي والمزاجي في عملية شراء الأسلحة. ففي الوسط الشيعي ثمة شعور بأن للطائفة"جيشها"ناهيك بأن الأحزاب الشيعية الأخرى غير حزب الله والتي سلمت سلاحها طواعية في عام 1990 كان بإمكانها الأحتفاظ ب"بعضه"وكثير من عناصرها لم تسلم اسلحتها الفردية حركة امل. يصح هذا الكلام ايضاً في الحزب التقدمي الاشتراكي الذي يتزعمه النائب وليد جنبلاط، وهو ما يفسر به تجار الأسلحة عدم توسع ظاهرة الإقبال على شراء السلاح في اوساط الدروز، لكنه يصح بنسبة اقل في اوساط مناصري"القوات اللبنانية"، اذ شهدت سنوات السلم القليلة في لبنان مداهمات واسعة لمراكز القوات وللأماكن التي من الممكن ان تكون خزنت فيها اسلحة وعتاداً. ناهيك بأن"القوات اللبنانية"كانت استبقت انتهاء الحرب ببيعها اسلحتها لدول اجنبية. الطرفان اللبنانيان الأقل انتماءً الى"ثقافة"التسلح في لبنان هما تيار"المستقبل"والتيار العوني، من دون ان يعني هذا الاستنتاج نفي قيام مناصرين منهما باقتناء السلاح، لا بل ربما قام هؤلاء العناصر بخطوات تعويضية لاستلحاق ما فاتهم على هذا الصعيد. وهذا ما يبدو انه حصل، ولكنه بقي محدوداً لعوامل كثيرة، منها عدم تقبل اوساط من هذين التيارين رغبات مستويات اخرى فيهما في التسلح، ومنها انعدام الخبرة على هذا الصعيد. ولكن يبقى ان سلاحاً صار في ايدي مناصرين لهذين التيارين، وان افراداً منهما تدربوا على استعماله، ناهيك بوجود مجموعات مسلحة من احزاب صغيرة ملتحقة بهما سبق ان خبرت الحروب وجربتها. ويقول صلاح:"ان دافع العوني الى التسلح اعتقاده بأن القواتي مسلح، اما دافع"المستقبلي"فهو السلاح بين ايدي مناصرين لأمل وحزب الله". ويقول انه اختبر هذه المعادلة على"الأرض"عندما حاول فهم دوافع شبان اقدموا على شراء السلاح. محاولة التمييز بين طبيعة السلاح المتداول في السوق اللبناني، وبين السلاح الذي يُغدق لإشعال الحروب عادة، تبدو ضرباً من العبث. فالقول إن لا حرب في الوضع الراهن في لبنان قد يكون صحيحاً ولكن من دون ان يكون اعتمادنا في استنتاجنا هذا على مدى انتشار السلاح ونوعيته. فالأسلحة موجودة ومن السهل تعاظمها، والأطراف اللبنانية بدأت تستعد من دون قرارات مركزية فيها، بل بدوافع ضمنية وداخلية. فالفارق ضئيل بين قرار بالتسلح تصدره القيادة، وقرار بالتسلح تصدره القواعد، بل ربما كان القرار الثاني اشد تأثيراً من الأول. اما القرار بالتدرب على السلاح والذي بدأ ينفذه الكثير من القوى، وبعضها"مدني"ويتذرع بأنه يهدف الى"حماية النفس"وليس المبادرة، فيعني اننا نتهيأ لتكرار التجربة.