غيب الموت فنان الخط العربي المصري حامد العويضي عن 51 سنة، بعد حياة حفلت بالعطاء الفني المتميز انتهت برحلة قصيرة مع المرض في مستشفى قصر العيني في القاهرة. وعمل العويضي الذي توفي الجمعة الماضي، مديراً فنياً لمطبوعات مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في الأهرام، ومصمماً للأغلفة في عدد من أشهر دور النشر المصرية والعربية، فضلا عن مساهمته البارزة في كتابة"لوغوات"الصحف والمجلات المصرية. واضافة الى ابداعه في مجال الخط العربي ارتبط العويضي بالحياة الأدبية في مصر، إذ اشتغل مطولا على نصوص شعرية ونثرية لعدد من الأدباء القدامى والمعاصرين، منذ أن قدم الكاتب جمال الغيطاني لوحاته الخطية على غلاف"أخبار الأدب"التي خصصت لها أكثر من ملف ملون، لاسيما اللوحات التي قدمها عن"مقابسات"أبي حيان التوحيدي، وعرضت في الاحتفالية الدولية التي أقامها المجلس الأعلى للثقافة في مصر لمناسبة ألفية التوحيدي. واشتغل الفنان الراحل كذلك على قصائد للشاعر الراحل أمل دنقل عرضها على هامش الاحتفال بمرور 20 سنة على رحيل شاعر"الغرفة 8"في عام 2003. كما نفذ لوحات خطية كاملة لقصيدة"محمد الدرة"للشاعر محمود درويش، وقصيدة"بغداد"لأحمد عبد المعطي حجازي، فضلا عن لوحات كتبها عن عدد من قصائد شاعر النيل حافظ إبراهيم والشاعر أحمد بخيت. وللقدامى أنجز لوحات عن أعمال النفري وابن عربي وعمر الخيام وابن الفارض ومقولات الإمام علي بن أبي طالب في"نهج البلاغة". كما اشتغل على نصوص شعرية لغوته من"الديوان الشرقي". و في لوحات العويضي ثمة إحساس استثنائي بالبلاغة الكامنة في النصوص التي يتعامل معها، كأنه يعطيها شحنة صوفية اضافية تتوالد عبر موسيقى الحرف، ففي بعض الأعمال تكون اللوحة كلها عبارة عن نص غير مقروء يعمل على خلفية تشكيلية. وفي أعماله الأخيرة التي قدمها في القاهرة والمنامة وجدة وطرابلس وطوكيو وروما واصل الفنان مغامراته في الخروج بالحرف العربي من صورته الكلاسيكية ومن إطاره العادي عنصراً زخرفياً، ليفتح له المجال ليصبح عنصراً تشكيلياً فاعلاً وعلامة قائمة بذاتها داخل اللوحة التي تكون بمثابة الفضاء وليس الإطار. وكان يقول:"ما أنجزه محاولة لإنهاء القطيعة بين"الخط"و"اللوحة التشكيلية"لإقامة توازن بين الحضور الطاغي للحرف وامتداده في فضاء التشكيل". وواصل في طريقه ما أنجزه"الحروفيون"المصريون من أمثال الراحل يوسف سيده كما أكمل الاتجاه الذي بلوره فنانون عرب كبار من أمثال العراقي سعيد الصكار والتونسي نجا المهدواي في اشتغالهم على"الحرف"عنصراً مهماً في اللوحة: وكان في إصراره على مواصلة هذا الطريق يرغب في مواجهة من سمّاهم"بعض فناني الحداثة الذين كان ينظرون الى الخط العربي نظرة دونية، ويتجاهلون قيمته في صورة من صور الانسحاق أمام الثقافة الغربية. بينما اعتقد العويضي في كل لوحاته أن الخط العربي هو جزء من الهوية العربية التي لا يمكن إغفالها ضمن التراث الإنساني العام أيضاً. والى جانب الأعمال الفنية كتب العويضي مجموعة من الدراسات الفنية لمجلة"الهلال"المصرية قدم فيها جملة من التصورات النقدية الواعية التي تثبت بأدلة عملية ولوحات غاية في الحرفية والأناقة قدرة الخط العربي على الصمود في وجه"الزحف"الذي يقوم به الكومبيوتر. ولم يتخوف العويضي من الكومبيوتر بل اقتحمه، واستخدمه أداة لتطوير إمكاناته، ووصل به الأمر إلى درجة تصميم خط جديد يمكن استخدامه على الكومبيوتر بالتعاون مع شركة"صخر"التي نجح معها كذلك في إدخال بعض الخطوط العربية إلى برامجها وهذا الخط اسمه"حامد"وذلك بعد أن لاحظ أن خطوط الكومبيوتر لا تتبع المنهج الجمالي الصحيح في الكتابة العربية. إضافة إلى مقالاته الصحافية التي خصص غالبيتها للنقد الموسيقي وتناول فيها أعمال كبار قراء القرآن الكريم، عمل العويضي كذلك على مواجهة عمليات السطو الواسعة النطاق التي شنها تجار محترفون على اللافتات القديمة المعلقة بأسماء شوارع القاهرة، إذ كان هؤلاء التجار يستبدلون بها لوحات أخرى حديثة، ويقومون بتهريبها الى الخارج. وعلى مستوى الابتكار التشكيلي نوّع العويضي في الخامات اللونية التي اشتغل بها اذ استخدم أصباغ الأوكسيد، بدلاً من ألالوان العادية. وأعطت هذه الاصباغ نتائج فريدة مع نوعية الورق الذي كان يستخدمه، اذ كان يقوم بإعداد السطوح التي يخط عليها بنفسه قبل صناعة اللوحة التي يجملها بطريقة تعطي أرضيتها أبعاداً أعمق. وعمل الفنان قليلاً على الزيت، في طريقة إعداد اللوحات وكذلك في اختيار المجموعة اللونية. وعلى رغم نجاحه في تحقيق انجازات فنية في المسابقات الدولية التي شارك فيها، لم ينجح في تحقيق حلمه في كتابة المصحف الشريف بخط اليد وبرؤية معاصرة، وبسيطة. اذ كان يعتقد بأن المصاحف الموجودة حالياً مكتوبة بالخطوط الفاطمية والمغربية والفارسية. رحم الله العويضي الذي قال عنه الشاعر عبد الرحمن الابنودي إنه"عبقرية تختفي تحت ملامح التواضع الإنساني الكبير".