شهدت بيروت لسبعة أيام متتالية أسبوعاً سينمائياً نظمته إدارة سينما "متروبوليس" بالتعاون مع مجلة "دفاتر السينما" كاييه دو سينما الفرنسية بحضور رئيس تحريرها جان ميشال فرودون. "الأسبوع"الذي اختتم عروضه أول من أمس يفتتح تظاهرة سينمائية أوسع بعنوان"قصص من السينما"، تشمل أربعة أقسام تعرضها سينما"متروبوليس"خلال هذا العام بدعم من"الاتحاد الأوروبي". وتهدف هذه التظاهرة، كما يقول القائمون عليها، الى إلقاء نظرة الى سينما اليوم، سواء من خلال عرض أعمال سينمائية حديثة أو من خلال فسح المجال امام الجمهور لإعادة اكتشاف روائع السينما الكلاسيكية، أو الأفلام الاولى لسينمائيين كبار، ثم مناقشتها مع اهل الاختصاص بغية"تسليط الضوء على المقاربات السينمائية المختلفة، وأيضاً، المشكلات والتحديات التي تواجه السينما في زمننا الراهن". وتأتي باكورة هذه النشاطات تظاهرة"دفاتر السينما" لتتيح الفرصة لهواة الفن السابع لمشاهدة ستة أفلام روائية حديثة من اختيار مجلة"دفاتر السينما". ومعروف انه حين تحمل البرمجة السينمائية توقيع هذه المجلة الفرنسية العريقة، تكون النتيجة غياب الأفلام التجارية مقابل سطوة أفلام تنتمي الى ما يسمى اليوم بپ"السينما المستقلة". من هنا لم يفاجأ الجمهور البيروتي بعروض أتت من بلدان لم يسطع نجمها في عالم الفن السابع رومانيا، فنلندا، روسيا، لكنها فاجأت جمهور المهرجانات اينما حلّت، خصوصاً جمهور"كان"، الذي أمتعته خمسة أفلام من أصل ستة شاركت في هذا المهرجان وحصدت جوائزه "اربعة اشهر، ثلاثة أسابيع ويومان"،"الكسندرا"،"التمساح"،"رجل من دون ماضٍ"، وپ"ممثلات"، أما الفيلم السادس "الدخيل" فشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا، وحصد إعجاب الجمهور. ولعل القاسم المشترك الذي يجمع بين الأفلام الستة يتجلى في كلمة رئيس تحرير"دفاتر السينما"حول مساهمته في هذا النشاط الفني، إذ يقول:"تعيش السينما الراهنة مفارقة غريبة: ففي وقت بات العالم أجمع يشاهد الأفلام ذاتها، لم تشهد صناعة السينما منذ الأخوين لوميير هذا الكمّ من الأفلام المتنوعة والمبدعة الآتية من بلدان متنوعة". ويضيف:"لا شك في ان هذا البرنامج المؤلف من ستة أفلام لا يمكن أن يعكس كل هذا التنوع، لكنه على الأقل قادر على ان يقدم صورة مصغرة عن هذا الواقع، وذلك بفضل أفلام حديثة نالت إعجاب"دفاتر السينما". أما عرضها في بيروت فهو، إضافة الى كونه يخلق نقاشات مع الجمهور اللبناني حول السينما، فإنه يشكّل، أيضاً، موعداً للقاءات مقبلة عنوانها جملة من التحديات الفنية والسياسية التي تحملها السينما المعاصرة". وبنظرة بانورامية سريعة الى الأفلام الستة، يطلّ عنوان"الفن والسياسة"بالخط العريض. بداية من الفيلم الروماني"اربعة اشهر، ثلاثة أسابيع ويومان"من إخراج كريستيان مانغيو الذي نال"السعفة الذهبية"في دورة"كان"الأخيرة، وافتتح الأسبوع البيروتي بحضور رئيس بعثة المفوضية الأوروبية في لبنان السفير باتريك لوران. مفارقة غريبة في هذا الفيلم لا ألعاب سينمائية ولا"فذلكات"في الإخراج. فقط قصة مؤثرة تدور في رومانيا آواخر سنوات الحكم الشيوعي الديكتاتوري، حيث الخوف هو عنوان تلك المرحلة. أما الكاميرا فتلاحق فتاتين تحاولان النجاة بنفسيهما بعد تورط إحداهما بعلاقة غير شرعية وحملها، فيسلط المخرج الضوء طوال دقائق الفيلم على رحلتها مع الإجهاض التي لن تخلو من أبشع ضروب الابتزاز حين يشترط"الطبيب"مقابل إسقاط الجنين - وهي عملية كانت ممنوعة في ذاك الوقت - مطارحة الفتاتين الغرام. وإذا كان فيلم مانغيو يطرح قضية إنسانية مغلّفة بأسئلة سياسية عن فترة من أكثر الفترات وحشة في تاريخ رومانيا، فإن السياسة أو بالأحرى الحرب تشكل نبض فيلم الروسي ألكسندر سوكوروف"الكسندرا"، حتى ولو اختار المخرج الهروب من تصوير أي معركة، أو مشهد حربي. في هذا الفيلم يقدم سوكوروف مرافعة إنسانية ضد حرب الشيشان من خلال رحلة سيدة عجوز تجسد دورها مغنية الأوبرا الشهيرة غالينا فيشنفسكايا ارملة عازف التشيلو الراحل روستروبوفتش الى إحدى الثكنات العسكرية المرابطة في الشيشان حيث يخدم ابنها الضابط. رحلة لن تكون طبعاً زاخرة بالأوقات السعيدة، إنما ستشكل مادة دسمة لطرح الأسئلة حول الحرب والقتل المجاني والمجازر الوحشية... ولا تقتصر الانتقادات الفنية للسياسة على هذين الفيلمين. إذ هناك أيضاً فيلم ناني موريتي"التمساح"الذي شعر كثر من مشاهديه اللبنانيين أنه يكاد يتحدث عن عالمهم المحلي من خلال حديثه الموارب والحاد عن السياسي الإيطالي برلوسكوني. أما"رجل من دون ماضٍ"للفنلندي آكي كوريسماكي، فهو فيلم نال ضجة لا بأس بها في دورة سابقة لپ"كان"من خلال موضوعه عن رجل يأتي من اللامكان فاقداً ذاكرته. وفي المقابل كان الاهتمام بفيلم"ممثلات"لفاليري بروني-تيديسكي، من منعطف آخر. فأولاً هي تجربة جديدة في الإخراج لإحدى فاتنات الصف الأول في السينما الفرنسية، ثم هو فيلم من توقيع شقيقة كارلا بروني التي أصبحت السيدة الأولى في فرنسا، وكادت قبل ذلك تؤدي دوراً اساسياً في هذا الفيلم، لولا رفضها له في اللحظات الأخيرة. أما فيلم"الدخيل"لكلير ديني، فإن اهميته تكمن في كونه يصور رحلة مزدوجة: رحلة بطله من مكان الى مكان، ورحلة المخرجة داخل قلب هذا البطل، وداخل مغامرته الغريبة. سينما متقشفة إذاً برنامج من ستة أفلام روائية أتى بأكثر من دورة لپ"كان"الى قلب العاصمة اللبنانية، وكأنه ضوء أخضر لمجلة لم تتوقف عن الاهتمام بهذا النوع من السينما المستقلة التي أرادت دائماً أن تقول شيئاً... سينما متقشفة قوية، تنظر الى الراهن والتاريخ والحياة، في بلدان يعرف الإنتاج السينمائي فيها تأزماً. لكن التأزم لم يلغ وجود مثل هذه الأفلام ودنوها من القضايا الشائكة. وفي انتظار موعد جديد تحدده إدارة سينما"متروبوليس"ضمن سلسلة"قصص من السينما"يحمل المشاهد اللبناني ذكرى طيبة من التظاهرة الأولى، التي مكنته من متابعة أفلام ما كان في الإمكان مشاهدتها على الشاشة الكبيرة بسهولة، لخصوصيتها وبعدها من التجارة، حتى وإن كان صعباً قبول عرضها من دون ترجمة الى العربية. لكنّ الأهم من هذا هو اللقاء بين جمهور الهواة وبين المجلة المشاركة في تنظيم العروض. فهذه المجلة التي قد تبدو اليوم عادية في زمن يتكاثر فيه النوع على حساب الجودة، تعتبر ومنذ بداية خمسينات القرن العشرين"اسطورية". ومعروف انها المجلة التي اسست لتيار الموجة الجديدة في السينما الفرنسية بعدما كان كبار مخرجي هذه الموجة غودار، تروفو، شابرول، آستروك، وغيرهم نقاداً متحلقين من حول المؤسس اندريه بازان. وإذا ابتعد هؤلاء منصرفين الى تحقيق الأفلام السينمائية، أكملت"دفاتر السينما"طريقها عبر ستة عقود تقريباً حتى الآن، عرفت خلالها طلعات ونزلات، وحقباً تنظيرية وأخرى ماوية، وصراعات مع منافساتها في فرنسا، ولا سيما"بوزيتيف". لكنها على طول تلك الدرب عرفت كيف تساند السينمات التقدمية والمجدية في العالم، بدءاً بپ"المستقلين"الاميركيين، وصولاً الى يوسف شاهين وايليا سليمان ويسري نصرالله. واليوم، إذ تصل"دفاتر السينما"الى لبنان بفضل برنامج النشاط الميداني هذا، لا شك في ان اللقاء سيكون مثمراً للمجلة دخول بلد جديد عليها وللسينمائيين اللبنانيين، وأيضاً لجمهور الهواة الذي يجد نفسه في قلب عالم من النقد التقدمي الجاد.