مع اقتراب انتخابات الرئاسة الأميركية يراقب العالم نتائجها وما ستأتي به من إدارة جمهورية أو ديموقراطية وشخص الرئيس الجديد وكيف سيدير علاقة أميركا مع العالم . خلال هذا الترقب ينبه العديد من الخبراء والباحثين إلى أنه أيا كانت الاختلافات في أسلوب الاقتراب من قضايا العالم بين الرؤساء الأميركيين، فإن السياسة الخارجية الأميركية والمواقف الأساسية منها من الأمور التي يتحقق لها قدر كبير من الاستمرارية ويتحكم فيها واقع القوة الأميركية.يصدق هذا على فترات ومراحل الحرب الباردة وصراعاتها، إذ كان الخط الرئيسي للسياسة الأميركية، ولكل الإدارات هو احتواء الاتحاد السوفياتي، وتأكيد التفوق العسكري والاستراتيجي الأميركي، وملاحقة النفوذ والتأثير السوفياتي في كل مناطق العالم، فضلا عن محاولة التطويع الداخلي للنظام السوفياتي والدول الحليفة له في شرق أوروبا، كما تحققت الاستمرارية الحليفة سواء في أوروبا أو مع اليابان وإدارة العلاقات معها بشكل يؤكد القيادة الأميركية ويخدم الأهداف الاستراتيجية العليا للتحالف الغربي، أو مع قوى مناوئة مثل الصين وإدارة العلاقات معها، فقد كانت إدارة نيكسون الجمهورية هي التي أنهت القطيعة مع بكين، وكانت إدارة كارتر الديموقراطية هي التي واصلت هذا الخط وأكملت عملية التطبيع مع جمهورية الصين الشعبية. كذلك نجد هذه الاستمرارية ? على النطاق الاستراتيجي والعالمي ? تتفق بعد الحرب الباردة من حيث تأكيد الدور والقيادة الأميركية. كان الرئيس الأميركي جورج بوش الأب، هو الذي صك مفهوم النظام الدولي الجديد وما يتضمنه من تفرد الولاياتالمتحدة وانتهى الرئيس الديموقراطي كلينتون خصوصاً في العامين الأخيرين من ولايته الأولى من تأكيد وجوب أن تأخذ الولاياتالمتحدة دورا قياديا في قضايا العالم، بدا هذا بوضوح بإلقائه الثقل الأميركي في مشكلة البوسنة بعد طول تردد من حلفائه الغربيين وثبوت افتقارهم للإرادة والرؤية الموحدة. ومع تراجع إطار الحرب الباردة واختفاء التهديد السوفياتي، ظلت أهداف ضمان المصالح الأميركية في منطقة الشرق الأوسط باقية وأضيفت إليها أبعاد جديدة وهي منع انتشار أسلحة الدمار الشامل، ومقاومة الإرهاب والأصوليات الدينية تحديدا في الأصولية الإسلامية والدول والقوى التي تمارسها وترمز إليها، ويرتبط بذلك بشكل وثيق احتواء وحصار وعزل دول مثل إيران والعراق وليبيا والسودان. وقد تبدو استمرارية السياسة الأميركية في الشرق الأوسط بوضوح في المواقف من أهم نزاعاتها وهو النزاع العربي الإسرائيلي في مراحله وتطوراته المختلفة، وحيث كان يحكمها من ناحية التزام مطلق بأمن إسرائيل حتى لو اتخذ هذا الأمن صور عدوانية مثل حرب 1967، وهو ما دافعت عنه إدارة جونسون الديموقراطية، أو إنقاذ هذا الأمن في المواقف الحرجة مثل حرب تشرين الأول أكتوبر، وكذلك الالتزام بضمان التفوق العسكري خصوصاً في مستواه النوعي لإسرائيل على كل جيرانها العرب، وهو الالتزام الذي تؤكده باستمرار وتنفذه كل الإدارات الأميركية. في إطار هذه الالتزامات الأميركية الثابتة تجاه إسرائيل، اشتركت الإدارات الأميركية المختلفة، وعلى مستويات مختلفة في العمل على أن تقدم نفسها كوسيط للتوصل إلى حلول وتسويات سياسية لجوانب النزاع العربي الإسرائيلي بالتوازي مع كل التأييد العسكري والشامل، والذي قدمته إدارة نيكسون الجمهورية لإسرائيل خلال حرب تشرين الأول أكتوبر، اتجهت وللمفارقة بفعل هذا التأييد، للعمل على التوصل لتسويات ليس فقط للمخلفات المباشرة للمعارك العسكرية، وإنما لإيجاد إطار جديد للعلاقات في المنطقة ومجرى الصراع فيه وبفعل التدخل المباشر واليومي لوزير خارجيتها هنري كيسينجر، وهو العمل الذي أفضى إلى اتفاقات فض الاشتباك على الجبهتين المصرية والسورية، وهي الاتفاقات التي هيأت في الواقع، وكانت مقدمات للتطور الكبير الذي تابعته وحققته إدارة كارتر الديموقراطية بتدخل شخصي ومباشر من رئيسها محققة بذلك اتفاقيات كامب دايفيد، والتي كانت في الواقع الأساس الذي ستتطور عليه وفي اتجاهه العملية السياسية في المنطقة وتفاعلاتها. وتابعت إدارة ريغان الجمهورية الركود الذي ألم بالعملية السياسية بعد كامب ديفيد في ما يتعلق خصوصاً بالجانب الفلسطيني، وحيث أصدرت في أول أيلول سبتمبر عام 1982 ما عرف ب"مبادرة ريغان"وكانت أول اقتراب جاد لقضيتين مهمتين وهما قضية المستوطنات الإسرائيلية، حيث طالبت بوقف بنائها، وقضية الكيان الفلسطيني ? وان تصورته في علاقة مع الأردن. غير أن مبادرة ريغان لم تلق الإرادة ولا الثقل المطلوب من الإدارة، حيث تركت لمبعوثين يفتقدون للثقل السياسي. أما ما يمكن اعتباره اهتماما جادا ومتماسكا في اتجاه البحث عن تسويات سلمية في النزاع العربي الإسرائيلي، فهو الذي تبنته إدارة بوش الأب، والتي تبلورت جهودها في النهاية في جمع أطراف النزاع في الشرق الأوسط المباشرين وغير المباشرين في مؤتمر دولي تحضره أيضا أطراف دولية، وهو ما تحقق في مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط، والذي أرسى مبادئ وقواعد العملية السلمية وفي جوهرها مبدأ الأرض مقابل السلام. وتجدر الإشارة اتصالا بالدور الأميركي في العمل على عقد مؤتمر مدريد إلى الأسلوب الذي اتبعته الإدارة في دفع إسرائيل وحكومة الليكود بزعامة شامير إلى المؤتمر فضلا عن موقفها الذي سبقه في ما يتعلق بالقروض الأميركية لإسرائيل وربطها بعدم استخدامها في بناء المستوطنات. أما تطورات ما بعد مدريد ? وان لم تحدث في إطاره المباشر وغير المباشر، فقد وقعت خلال عهد إدارة كلينتون الديموقراطية، ونعني بها أساسا اتفاقات أوسلو وملحقاتها بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، والاتفاق الإسرائيلي الأردني . وتلقفت إدارة كلينتون هذه الاتفاقيات وباركتها بل وجعلتها من إنجازاتها في السياسة الخارجية، ومن خلال ذلك ارتبطت وبشكل عاطفي بشخصيات أطرافها: رئيس الوزراء الإسرائيلي رابين وخليفته شمعون بيريز، والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والملك حسين. غير أن التحرك الجاد من إدارة كلينتون جاء في العام الأخير لها حين دعا كلينتون الفلسطينيين والإسرائيليين إلى عقد مؤتمر كامب ديفيد الثاني في تموز يوليو 2002، وهو المؤتمر الذي كاد الطرفان أن يصلا فيه إلى اتفاق لولا أنهما تعثرا في اللحظات الأخيرة. وعندما تولي بوش الابن الحكم هاجمت إدارته الإدارة الديموقراطية السابقة وخصوصاً بعد النتائج الكارثية التي حدثت بين الفلسطينيين والإسرائيليين، واعتبرت أن كلينتون زج بهيبة الرئاسة الأميركية في أمر فاشل، وأدي هذا إلى رفع إدارة بوش يدها تقريبا عن عملية السلام واستمرار موقفها المتجاهل حتى إعلانها عن مفهوم حل الدولتين وخريطة الطريق. وأمام الانتقادات التي تعرضت لها الإدارة حول إهمالها للصراع الفلسطيني الإسرائيلي أقدم بوش على ما أقدم عليه كلينتون في أواخر أيامه من الدعوة لمؤتمر أنا بوليس، الذي أطلق عملية التفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين ووعد بالتوصل إلى اتفاق مع نهاية عام 2008. وأيا كانت الإدارة المقبلة، جمهورية أم ديمقراطية، فإن اقترابها لن يختلف عن هذا النمط الذي تبنته الإدارات الأميركية المتعاقبة: تأييد كامل لأمن إسرائيل وتفوقها، وجهود متفرقة لإدارة الصراع، وان كنا نتصور أن النتائج التي ستسفر عنها المفاوضات التي أطلقها مؤتمر أنا بوليس ستؤثر على الإدارة المقبلة سواء في محاولة العمل والبناء عليها في حال النجاح أو الابتعاد عنها في حال الفشل. * كاتب مصري