في مثل هذه الأيام منذ خمسين عاماً عرفت المنطقة العربية حدثاً استثنائياً سيبقى في ذاكرة الأمة تعبيراً عن إنجاز تحقق، وسابقة وجدت لكي تثبت للجميع أن حلم الوحدة العربية ممكن، ولكن لا يوجد له ضمان بالبقاء والاستمرار، وذلك هو درس تلك الوحدة التي بدأت في الثاني والعشرين من شباط فبراير 1958 وانتهت بحادث الانفصال في الثامن والعشرين من أيلول سبتمبر عام 1961. ويبدو أن تاريخ الثامن والعشرين من أيلول هو تاريخ حافل بالأحداث فهو يوم"الانفصال"ويوم قيام ثورة اليمن ويوم رحيل بطل الحلم العربي جمال عبد الناصر ولا شك أن يوم الانفصال كان هو الضربة القاصمة الأولى التي لحقت بالزعيم عبد الناصر فأنهكت قواه الصحية حيث بدأ داء السكري ينهش في جسده لأن علاقة ذلك الزعيم بالشعب السوري كانت لا تقل عن علاقته بالشعب المصري ذاته بل إن"عبد الناصر"لقي في"الإقليم الشمالي"من الحفاوة البالغة والشعبية الكاسحة ما لا نكاد نجد له نظيراً في التاريخ الحديث فلقد رفع السوريون سيارته أكثر من مرة وأفرغوا في زعامته كل مشاعرهم القومية وأحاسيسهم الوحدوية خصوصاً أن الشام الكبير كان هو دائماً معقل الحركات القومية وركيزة التوجهات الوحدوية. ولست أنسى وجه عبد الناصر وهو يطل على شاشات التلفزيون الذي كان بدأ الإرسال قبلها بعام واحد فقط معلناً في أسى بالغ أحداث التمرد الذي بدأ بمعسكر"قطنة"وامتد إلى أنحاء متفرقة في سورية إيذاناً بسقوط دولة الوحدة قصيرة العمر شديدة التأثير. ولقد حاول عبد الناصر التدخل عسكرياً لقمع الحركة الانفصالية ولكنه عدل عن ذلك حقناً للدماء العربية ولإيمانه بأن مشروع الوحدة هو مشروع قومي إرادي لا يأتي بالقهر ولا يفرض بعمل عسكري. وقد يختلف المؤرخون حول تقييم تلك التجربة الوحدوية الرائدة فمصر وسورية كانتا دائماً محوراً للعمل العربي المشترك وركيزة للانطلاقة القومية وقد اندمجتا مرتين، الأولى في القرن التاسع عشر بقيادة إبراهيم باشا في عهد محمد علي الكبير وكان ذلك الاندماج من عام 1831 حتى توقيع اتفاقية لندن عام 1840 والتي انكمشت بمقتضاها إمبراطورية محمد علي لتصبح قاصرة على مصر وتكون وراثة لأبنائه وأحفاده من بعده، أما الاندماج الثاني فقد تجسد في تلك الوحدة الفورية التي أعلنها الرئيس المصري جمال عبد الناصر والرئيس السوري شكري القوتلي الملقب بعدها ب"المواطن العربي الأول"وكانت سورية فرغت لتوها من سلسلة انقلابات كان من أبرزها ما قام به حسني الزعيم وسامي الحناوي وأديب الشيشكلي. إنها الوحدة التي فرضها الضباط البعثيون وهو أيضاً الانفصال الذي قاده ضباط بعثيون! فلقد كان حادث الوحدة بمثابة انقلاب سوري يضع حركة البعث العربي الاشتراكي في المقدمة ورغم أن مجلس النواب السوري كان أرسل وفداً يبارك الوحدة عند مجلس الأمة المصري وكان ذلك برئاسة النائب السوري راتب الحسامي إلا أننا نظن أن تلك الوحدة المتعجلة كانت تعبيراً عن أجندة حزبية ناجحة قادها حزب البعث من دمشق وما زال تأثيرها مستمراً حتى الآن، ولعلي أُفصل الآن ما أوجزناه من خلال النقاط التالية:- أولاً:- إن حلم الوحدة تجسد عربياً في"كاريزما"الزعامة المصرية، فالسوريون تاريخياً هم دعاة وحدة ورواد قومية، أما المصريون فالحركة الوطنية لديهم ارتبطت بالظاهرة الإسلامية ولم تكن عروبية التوجه والفضل في تأكيد عروبة مصر سياسياً يرجع إلى دور جمال عبد الناصر الذي تشكلت بقيادته شخصية مصر العربية ودورها التحرري وثقلها السياسي الذي لا يختلف عليه عربيان. ثانياً:- إننا لا يجب أن نناقش مسألة الوحدة المصرية السورية بمنطق وقتنا الحالي فلقد كانت الأمور مختلفة والظروف متباينة حيث برزت التهديدات العسكرية التي أحاطت بالدولة السورية من كل جانب بينما المد الثوري والتألق القومي يتصاعد من"قاهرة عبد الناصر"فكان من الطبيعي أن تشخص الأبصار إليه وأن يتجه دعاة الوحدة من أبناء الشعب السوري تجاه"ابن النيل الأسمر"الذي جسد لهم مرحلة مجيدة في تاريخهم الحديث، لذلك فإنه من الظلم أن نحمل بلا موضوعية على تجربة الوحدة المصرية السورية متناسين ظروف عصرها والأوضاع في وقتها. ثالثاً:- كان العالم العربي منقسماً في ذلك الوقت بين ما يسمى"القوى الثورية"والأخرى"التقليدية"، وأدى ذلك الانقسام إلى مواجهات سياسية بل وعسكرية في الستينات من القرن الماضي ولعل"حرب اليمن"هي خير مثال على هذا، ولا شك أن ذلك التقسيم كان انعكاساً لأجواء الحرب الباردة وما شهده المجتمع العربي في ذلك الوقت من فوران يساري كان هو بمثابة التوجه الغالب الذي يسعى نحوه معظم المثقفين من الأجيال الجديدة، إذ بدأت الولاياتالمتحدة الأميركية تبدو أمامهم وكأنها الامتداد الطبيعي"للدولة العبرية"والعدو الأول للحركة القومية. رابعاً:- ارتبطت أحداث الوحدة بتطور سياسة الأحلاف العسكرية وكان أبرزها"حلف بغداد"في ذلك الوقت فضلاً عن تنامي الدور الأميركي في الشرق الأوسط وانفتاح شهية واشنطن تجاه المنطقة تحت مسمى"نظرية الفراغ"و"مبدأ ايزنهاور"، ولا شك أن الأجواء السياسية في تلك الفترة كانت حافلة بأشكال التآمر المتبادل وفيها ولدت"الدولة البوليسية"في الأنظمة الجمهورية وازدهرت"الدولة الفردية القبلية"في ظل العروش الملكية واحتدم الصدام بينهما على نحو غير مسبوق أدى بالضرورة إلى خفوت نغمة المد القومي وانهيار دعائم العمل العربي المشترك. خامساً:- يجب أن لا ننسى أجواء شباط فبراير 1958 ودرجة الانفعال العاطفي على المستوى القومي كله وانبهار الجميع بميلاد دولة الوحدة وانصياعهم لمشاعر الفرح العارم التي جعلت تلك الأيام واحدة من أيام المجد العربي مهما كانت النتائج والنهايات، ولن ننسى جميعاً تسابق الشعراء والأدباء والفنانين في تجسيد تلك المرحلة الحاسمة من الحلم العربي الذي كان متوهجاً كما لم يحدث من قبل. سادساً:- يزعم الكثيرون أن قيام الجمهورية العربية المتحدة كان مرتبطاً بزعامة جمال عبد الناصر عربياً وشكري القوتلي سورياً وأيد القوتلي الحركة الانفصالية بعد أن صدمته تصرفات سلطات دولة الوحدة وأسلوب تعاملها مع مواطنيها وواقع الأمر أن الوحدة فرضتها مشاعر عامة امتدت لسنوات طويلة وكانت كامنة في الوجدان العربي عموماً والسوري خصوصاً، لذلك فإنه من الظلم أن نقول إن ما حدث كان مجرد انفعال شعبي حول كاريزما لزعامة بذاتها، ونحن لا ننكر بهذه المناسبة تأثير شخصية عبد الناصر القائد الظافر وقتها الذي أمم قناة السويس وقاوم العدوان الثلاثي وواجه سياسة الأحلاف في جسارة وقوة. سابعاً:- إنني مازلت أتذكر كلمات الشاعر السوري الكبير عمر أبو ريشة مؤيداً الانفصال وأنا أرى أنه اختلفت النظريات في تحليل أسباب انهيار دولة الوحدة وتناسى الجميع أن دخول الجمهورية العربية المتحدة في مرحلة التحول الاجتماعي كان هو المسؤول الأول عن دعم حركة الانفصال، وأنا أشير هنا إلى ما سمي وقتها ب"الشركة الخماسية"ولكنني أُذكر الجميع بأن الثورات الوطنية عندما تصطدم بالخلاف الطبقي فإنها تدخل مرحلة جديدة يتوارى فيها الوفاق الوطني المرتبط بثورة التحرر السياسي ليظهر الصراع الطبقي المرتبط بتفاوت ملكية الثروة. ثامناً:- إننا مازلنا نتذكر وبعد خمسين عاماً أن"حرب السويس"عام 1956 قدمت عبد الناصر من مصر إلى أمته العربية ولكن الوحدة بين مصر وسورية قدمته للمجتمع الدولي كله وأصبح وزنه سياسياً يبدو وكأنه"بسمارك العرب"أو ما هو أكثر من ذلك أيضاً، فالكاريزما تخطف القلوب وتعمي الأبصار وتجعل الناس يفتتنون بالقائد ويعيشون الحلم الجميل مهما كانت النتائج بعد ذلك، إنها عملية تصدير عاطفي لهموم جيل وترحيلها إلى أجيال أخرى. تاسعاً:- إن الكل يتساءل الآن هل تحول حلم الوحدة العربية العظيم إلى وهم نظري أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة وهل بمقدورنا أن نجعلها في ظل الأوضاع الراهنة على قمة أولوياتنا، إن الأمر يحتاج إلى مراجعة أمينة تخرج من حيز النظرية إلى الواقع إنني أشعر أحياناً بأن الحديث عن الوحدة العربية وهو بالمناسبة أقرب الأحاديث إلى قلبي لأنني انتمي إلى جيل عاش ويموت وهو يحلم بالوحدة العربية يبدو أحياناً وكأن هناك شخصاً لا يرتدي ملابس إطلاقاً ولكنه يبحث عن رابطة عنق! فنحن نفتقر الآن إلى الحد الأدنى من التنسيق العربي أو التكامل الاقتصادي أو التوافق السياسي. عاشراً:- إن ما يجري حولنا يؤكد أن حلم الوحدة العربية سيبقى في ضمير الأجيال المقبلة يحرك مشاعرها ويحفز قدراتها لتلحق بركب العالم حولنا، فالاتحاد الأوروبي بدأ باتفاقية روما لإنشاء السوق المشتركة عام 1957 وسبقته بسنوات عدة اتفاقيات أخرى للسوق العربية المشتركة، ولكن الفارق أن هناك الجاد الذي يكمل الطريق والآخر الذي ينغمس في مشاعره وينسى غاياته النهائية في زحام الحياة. ..هذه خواطر عبثت بذاكرتي بعد خمسين عاماً من ميلاد دولة الوحدة وقيام الجمهورية العربية المتحدة وستبقى في ذاكرة هذه الأمة ما بقيت شعوبها وعاشت أوطانها وتواصلت أهدافها. * كاتب مصري