لم يستطع علمانيو فرنسا تحمل كلمة "الإله" تقرع أسماعهم ثلاث عشرة مرة في خطاب رئيسهم في مدينة الرياض، على أن الذي أغاظهم أكثر هو التعريف الذي قدمه للإله على أنه"إله موجود في عقل وقلب كل إنسان". عند هذه النقطة بالذات يفارق ساركوزي الرؤية العلمانية، لأنه لو وجد في بعض البروتستانتيين المنفتحين من يشاركه في هذه الاعتقاد، فإن هؤلاء أنفسهم يعتبرون أنه ليس من صلاحية ولا من دور رئيس جمهورية علمانية ان يأخذ اتجاهاً أو يتحزب مع دين، وهو عندما يفعل ذلك فنحن لسنا في إطار علماني وإنما في إطار"دين مدني"كما هو عند جان جاك روسو حسب البعض، أو"دين مدني"على الطريقة الأميركية حسب آخرين. ومما يعزز هذا التحليل أن القراءة المتأنية للخطاب تلاحظ أنه ينطلق من فكرة التنظير لدين"جيد"وآخر"سيء"، وفي الأيديولوجيا السياسية المسيطرة اليوم فإن هذه الفكرة تسجل في منطق دين مدني وليس بمنطق"فصل للسياسي عن الديني"كما تقتضي العلمانية. لا أحد في فرنسا أو خارجها يجهل الغايات السياسية والاقتصادية لنيكولا ساركوزي من وراء خطابيه في روما يوم 20 كانون الأول ديسمبر 2007، وفي الرياض في 14 كانون الثاني يناير ولكن على الرغم من ذلك فإن ساركوزي يبدو كما لو أنه"كفر"بالعلمانية و"ارتد عنها"بتجرؤه على نقدها وإعادة تعريفها، مما أثار عواصف الاحتجاج من الكهنوت العلماني الفرنسي الذي جرم الرجل بأنه"قدم فرنسا في الفاتيكان كبلد مسيحي، ثم كرر الجرم نفسه في الرياض ذاهباً إلى حد التصريح بأن"كل سياسة حضارية يجب أن تستند إلى الدين". لذلك لم تفلح ذرائعية الرئيس هذه المرة التي تمكن من خلالها من اقتحام مناطق النفوذ الاقتصادية الأميركية، والحديث عن التنوع الديني في الرياض، في إرضاء سدنة العلمانية في الوسط الفرنسي، مما دفع المؤرخ جان بول سكوت إلى اعتبار أن ساركوزي"بتوظيف الأديان لغايات سياسية لم يخرج فقط على العلمانية، وإنما على الدستور والجمهورية"، حيث يلاحظ أن التجريم وصل هنا إلى حد الاعتداء على الجمهورية. وهذا الاتهام تعزز بقراءة معمقة لكلام ساركوزي حينما صرح بأنه"في مجال الاعتقاد وتعلم الاختلاف بين الخير والشر، فإن المدرس لا يمكنه أبداً أن يحل محل الكاهن أو القس"، مع ملاحظة أن المدرس هنا يمثل رمزاً للجمهورية. ومما يعطي الأهمية لخطابات ساركوزي أنها تأتي في لحظة مهمة يلاحظ فيها أن"الجدل حول مكان الأديان في المجتمع الديموقراطي عاد إلى الانفجار في أوروبا"، ليعاد التفكير ب"دور المعلومات الدينية في بناء المواطن"وأثر الالتزام الديني أو الثقافة الدينية في إعادة تشكيل الروابط الاجتماعية، ما يجعل قضايا التنوع الديني والعرقي والثقافي والنظرة الداخلية لكل دين تجاه غيره من الأديان، وما يمكن أن يفرزه ذلك من التسامح أو التعصب، من التعايش أو التنافر، من الراديكالية أو الانفتاح، تستأثر بمكان هام في فضاء الجدل السياسي والديني والثقافي على السواء. هذه اللحظة التاريخية التي تشهدها أوروبا والتي تتميز بإعادة الاعتبار للفكر الديني نضجت بسبب ثلاثة عوامل أساسية. الأول: محاولة وضع صيغة توافقية جديدة للحرب الباردة بين التيارات الكنسية والعلمانية، وذلك بعد فترتين من التوتر شهدت الأولى سيطرة مطلقة للكنيسة هددت الحريات العامة، فيما شهدت الثانية ردة فعل قاسية للعلمانية عملت على إقصاء الدين عن كل فعل حضاري أو تدخل اجتماعي، ففي الحالة الفرنسية يبين ساركوزي أنه لا يريد النيل من قانون العام 1905 العلماني ولكنه يريد نهاية سلمية للحرب"بين فرنسا وفرنسا"الكنسية والعلمانية. على أن هذا المسعى ليس سهل المنال وهو أقرب إلى الاستحالة منه إلى الإمكان، ولكن لنا أن نلاحظ أنه نجح لربما لأول مرة في التوحيد بين هذين القطبين الفرنسيين وذلك طبعاً باجتماعهم على مخالفته، لأن المؤمنين المحافظين لا يقبلون مثل هذه الديانة الحيادية التي لربما تشبه دين ما بعد الحداثة أو الدين الفردي الاستهلاكي، الذي هو أقرب إلى نزوة روحية استكشافية، وإن كان لخطابات ساركوزي في مسامعهم ذلك الوقع اللطيف المحبب، إذ وجدوا اخيراً رئيساً للجمهورية ينصح ب"علمانية إيجابية"تقدر الفعل الحضاري للأديان". العامل الثاني: وهو عامل واقعي أملته ضرورة مواجهة الأزمات التي تهدد مجتمعات أوروبا تشهد ظاهرة تشكلت وتعززت ببطء، وهي التنوع الديني الذي فرضه المهاجرون الجدد الذين أتوا حاملين معتقداتهم التي مهما اندمجوا في المجتمعات الجديدة سيبقون محافظين عليها، بالإضافة إلى أن كينوناتهم الدينية أو العرقية تشكل لهم ملجأً إزاء اللامساواة التي يتعرضون لها في أوروبا. فاليوم لا تستطيع العلمانية أن تلعب دور الحامي للوحدة المجتمعية، لأنها على الرغم من كونها شكلت نوعا من"المشترك النافع"لأوروبا كما يعبر السوسيولوجي البروتستانتي جان بول ويلليم، إلا أنها ومع الوافدين الجدد وأبرزهم الإسلام، بحاجة إلى إعادة شرح أو تعريف، وهذا ما يدعي ساركوزي وكتبة خطاباته الوصول إليه من تقديمهم فكرة"العلمانية الإيجابية"، وهي فكرة تستهدف في الأصل زحزحة للعقيدة العلمانية بعبارة حاذقة،"فمن سيكون مع علمانية سلبية؟". وهذه النسخة المقترحة أو كما يسميها البعض"العلمانية الساركوزية"تستند إلى أساس معنوي وهو"الدين المدني"وأساس مادي وهو"السياسة الحضارية"، وهي عندما تريد توسيع أفق العلمانية باتجاه إدماج الديانات الجديدة في البنية التحتية المجتمعية وذلك بتنميطها وتبيئتها تمهيداً لتهميشها في الدولة العلمانية تستند إلى المادة الأولى من قانون عام 1905"والتي تنص على أن الجمهورية تكفل حرية الاعتقاد"، مما يجعلها تحديثاً"للضمانات التي تطلبها الجمهورية الفرنسية نفسها بهذا القانون"وليست خروجاً عليه. العامل الثالث: وهو ظاهرة جديدة في أوروبا وخارجها وهي تزايد التدين وتنامي الشعور الديني على المستوى العالمي، وهي ظاهرة تطبع هذا العصر وتجد تأويلات وتفسيرات مختلفة، كما تجد تعامياً من قبل بعض المتشبثين بالتراث الفلسفي المادي الوضعاني، ومن أبرز المثبتين لهذه الظاهرة عالم الاجتماع جون فول الذي يذهب إلى أن الدين يزداد حضوره باطّراد في الفضاء العام، والأميركيان بيتر بيرغر وهارفي كوكس الأبوان الروحيان لمقولة سيادة العلمانية، وكانا قد كتبا عن"المدينة العلمانية"ثم عادا واعترفا بعد ذلك بأنهما أخطآ فكتب بيرغر يقول:"إن العالم ما يزال متدينا"، مما يجعل هذه الظاهرة من أهم التحديات المعاصرة التي لا تقل أهمية عن ظاهرة التغير المناخي! في هذا الظرف المخاضي المترقب لولادة فلسفات ونظريات وتفسيرات جديدة تتصل بإعادة اكتشاف الدين، مما يمكن أن يؤثرعلى مسار الإنسانية في القرن الحاضر، نجح ساركوزي في القبض على روح الجدل باجترائه على المحظور فرنسياً، ودخوله إلى أقدس أودية الجمهورية"منتعلاً"سلاح التغيير الذي انتخبه الفرنسيون لأجله! حاملاً لواء سياسة حضارية وعلمانية منفتحة تستعيد قلب أميركا الذرائعي، وتعتبر بعد ذلك أن هذا القلب مكان فسيح للإله والإيمان. * كاتب سوري مقيم في فرنسا