ILC. 1905-2005. Les Enjeux de la Laicite. 1905-2005 رهانات العلمانية. L'Harmattan, Paris. 2005. 114 Pages. تحتفل فرنسا هذا العام بمرور مئة عام على صدور القانون المؤسس لنظامها العلماني والمعروف باسم قانون 1905 للفصل بين الدولة والكنيسة. والواقع أن هذا التاريخ الرسمي لميلاد العلمانية الفرنسية يسبقه، كما في كل تاريخ، ما قبل تاريخ مديد. فقد يكون المرسوم الملكي المسمى"مرسوم نانت"أول مدماك أرسي في العمارة التاريخية للعلمانية الفرنسية. ففي 1598، وبعد حوالى أربعين سنة من حروب دين ضارية بين الكاثوليك والبروتستانت، أصدر الملك هنري الرابع، الذي كان هو نفسه بروتستانتياً قبل أن يعتنق الكاثوليكية عند تتويجه، مرسوماً يرسي الأسس لتعايش سلمي بين الطائفتين بقدر ما يمنح البروتستانت الحق في شغل مناصب في الدولة وفي ممارسة شعائرهم الدينية وإقامة كنائسهم في أماكن وجودهم المحددة مسبقاً. لكن هذه البذرة الأولى لم تلبث أن ماتت في أرضها عندما بادر الملك لويس الرابع عشر، المهووس بإقامة حكم مطلق في مملكة متجانسة قومياً ودينياً، الى الغاء مرسوم نانت عام 1685، مما استتبع هدم كنائس البروتستانت وفصلهم من وظائفهم في الدولة والجيش واضطرار نحو من ثلاثمئة ألف منهم الى النزوح الى سويسرا والمانيا. هذه النكسة، التي أدت الى إعادة توثيق الروابط بين الدولة والكنيسة والى تجميد حركة التطور في كلتا المؤسستين، أنتجت على صعيد الفكر مفعولها العكسي الذي تمثل بالحركة التنويرية التي قادها في القرن الثامن عشر كل من فولتير وروسو وكوندورسيه وآخرين، والتي أكدت على أهمية وظيفة العقل وحرية الاعتقاد ومفهوم القانون وحقوق الأفراد وفصل السلطات وإحلال مفهوم الأمة والشعب كأساس للشرعنة السياسية بدل الدين. وبصفتها تفعيلاً واقعياً لفكر الأنوار، بادرت ثورة 1789 منذ عامها الأول الى اصدار بيان حقوق الإنسان والمواطن الذي نص في مادته الأولى على تساوي الناس في الحرية وفي الحقوق، وفي مادته العاشرة على عدم جواز التعرض لأحد"لما يبديه من الأفكار حتى في المسائل الدينية". وأتبعت هذا البيان بعدد من الاجراءات العملية، وفي مقدمها الإقرار بالتعددية الدينية للمجتمع الفرنسي، والاعتراف بالديانتين البروتستانتية واليهودية الى جانب الكاثوليكية، والإلغاء الرسمي للكهنوت كطبقة اجتماعية وسياسية متميزة، ومصادرة أوقاف الكنيسة واعتبارها أملاكاً وطنية، ورفع يد الكنيسة عن مجالات التعليم والاستشفاء والإسعاف الاجتماعي، واعتبار ذلك كله من وظيفة الدولة، وأخيراً تحرير السجل المدني من قبضة الأبرشيات والكهنة وايكال تسجيل واقعات الولادة والزواج والوفاة الى دوائر الدولة في المحافظات والأقضية. وفي 1795، وفي سياق ما سمي في حينه ب"ديانة العقل"، صدر قانون ينص على أن الجمهورية الفرنسية"لا تعترف ولا تمول ولا تدفع مرتبات لأية ديانة". وفي العهد النابوليوني صدر قانون عقوبات جديد يحظّر على الكهنة عقد أي زواج كنسي ما لم يسبقه زواج مدني، وأباح في الوقت نفسه الطلاق الذي كانت تحظره الكنيسة الكاثوليكية. لكن مسار العلمنة هذا شهد نكسة في ظل الجمهورية الثانية التي لم يلبث نابليون الثالث، المتحالف مع السلطة الكنسية، أن حوّلها الى امبراطورية. ففي 1850 أصدر وزير التعليم العام فريدريك فالو، ذو الميول الكاثوليكية المعلنة، قانوناً يقلد الكنيسة سلطة رقابة على كل أجهزة التعليم الابتدائي والثانوي والعالي. والواقع أن نابليون الثالث، الذي سارع حال تتويج نفسه امبراطوراً الى عقد اتفاق تفاهم مع الكنيسة الكاثوليكية، كان يمثل نموذجاً في فترة الانحسار الثوري لحاكم مستبد يريد أن يتحكم بالمجتمع القومي بواسطة الدين، وأن يسترضي في الوقت نفسه المجتمع الدولي الذي كان يتمثل آنذاك ب"التحالفات المقدسة"لملوك أوروبا. بيد أن حقبة"الردة"هذه لم تطل. فمع إحياء الحكومات الجمهورية ابتداء من 1877 تسارعت من جديد حركة العلمنة، وتم للمرة الأولى التكريس المعجمي لكلمة"العلمانية"في القاموس المعتمد للغة الفرنسية، والمعروف بقاموس ليتريه. وعلاوة على رفع يد الكنيسة من جديد عن شؤون التعليم، صدر في 1880 قانون عمل جديد يلغي ما كان معمولاً به من قبل من حظر للعمل يوم الأحد وأيام الأعياد الدينية، وتلاه في 1881 قانون يكسر للمرة الأولى في التاريخ الحديث احتكار الكنيسة لشعائر الموت ويحول المقابر من مقابر دينية الى مقابر مدنية. وفي 1882 صدر قانون جول فري وزير التعليم المشهور في الجمهورية الثالثة الذي أنشأ المدرسة العامة العلمانية المجانية والالزامية لجميع الذكور والاناث ممن في السادسة الى الثالثة عشرة من العمر. وفي 1884 أقر النواب قانوناً يقضي بإلغاء الصلاة العامة عند افتتاح قانون يحظر على المؤسسات الدينية، أياً يكن نوعها، ان تمارس التعليم حرصاً على مبدأ حرية التفكير، مما أرغم المعاهد التعليمية الكاثوليكية على اغلاق ابوابها. وأخيراً، وبعد مداولات برلمانية دامت أربعة أشهر بتمامها، صدر في 1905 قانون الفصل الشهير ما بين الدولة والكنيسة، وهو القانون الذي كرس حرية الضمير والتعبير معاً، وأطلق حرية العبادة لجميع الأديان بلا استثناء، وفصل في الوقت نفسه فصلاً تاماً بينها وبين الدولة الجمهورية التي تم تكريسها كسلطة تشريعية سيدة بذاتها وعلى ذاتها من دون اية مرجعية دينية أو ميتافيزيقية مفارقة. ورغم أن القانون قد كفّ في الوقت نفسه يد الدولة عن التدخل في التنظيم الداخلي للكنيسة، فقد قوبل بمعارضة شديدة من الفاتيكان، كما من الكاثوليكيين الفرنسيين الذين دخلوا في حرب مكشوفة ضد الجمهورية الثالثة، لم يهدأ أوارها إلا عام 1924 مع توقيع اتفاقية بين الحكومة الفرنسية والفاتيكان حول تنظيم الأبرشيات. ومع أن قانون 1905 هو المؤسس الفعلي للعلمانية الفرنسية، فإن الكلمة نفسها لا يرد لها فيه ذكر. وكان لا بد من انتظار قيام الجمهورية الرابعة وصدور دستورها الجديد عام 1946 ليرد توصيف فرنسا، في المادة الأولى منه، بأنها"جمهورية علمانية". وعلى امتداد النصف الثاني من القرن العشرين بدت مسألة العلمانية وكأنها حسمت نهائياً في فرنسا من منطلق مسلمات ثلاث: 1- حرية الضمير المطلقة، ما يعني أن الفرد حرّ في اختياراته الايمانية أو اللاايمانية، وحرّ بالتالي في أن يتبنى موروثه في المجال الاعتقادي أو أن ينكره أو أن يبدله بغيره. 2- حرية العبادة المطلقة أيضاً بشرط أن تمارس في المجال الخاص دون أن تتعداه الى المجال العام الذي ينبغي أن يبقى حيادياً ومفتوحاًَ للجميع بلا تمييز. 3- الاستقلال الذاتي للدولة عن كل العبادات والمعتقدات، بما فيها المعتقدات المعادية للدين، وسؤددها الذاتي في مجال التشريع، وبقاؤها المصدر الوحيد للقانون وللحقوق. لكن مع بداية القرن الحادي والعشرين وطرح مسألة"الحجاب الإسلامي"، بدا وكأن فرنسا تواجه مع مواطنيها المسلمين الاشكالات نفسها التي كانت قد واجهتها مع مواطنيها الكاثوليكيين في مطلع القرن العشرين. فالعام 2005 يبدو وكأنه يكرر، في سياق مختلف، العام 1905. وتماماً كما كانت كثرة من الكاثوليكيين قد توهّمت قبل مئة سنة أن العلمانية تتناقض وعقيدتهم الايمانية، كذلك فإن كثرة من مواطني فرنسا المسلمين تتوهم اليوم أن العلمانية، المعززة بالقانون الصادر عام 2004 والقاضي بحظر اظهار العلامات الدينية وفي مقدمها الحجاب في المدارس العامة تتناقض مع عقيدتهم الايمانية الخاصة. وهنا يمكن للمرء أن يلاحظ أن الكاثوليكية الفرنسية خرجت في محصلة الحساب رابحة من معركة العلمانية: فقد تحررت من درن السياسة واكتسبت بعداً روحياً خالياً مكّنها من تجديد نفسها وانفتاحها على العديد من متطلبات الحداثة، وبالتالي ألا يمكن توقع الشيء نفسه بالنسبة الى الإسلام الفرنسي؟ فالعلمانية قد تفتح له الطريق للتحول من الإسلام السياسي، كما هو سائد اليوم، الى إسلام روحي قادر هو وحده على التلاؤم مع مقتضيات الحداثة. وهذه هي على كل حال، وعلى ما يبدو، المهمة التي أخذتها على عاتقها الهيئة التي أصدرت هذا الكتاب الجماعي عن"رهانات العلمانية من 1905 الى 2005"، والتي لا تفتأ تنشط في فرنسا منذ نحو عشر سنوات تحت اسم"لجنة الإسلام والعلمانية ILC"والمتفرعة عن"رابطة التعليم"التي هي واحدة من أنشط الرابطات العلمانية في فرنسا وأوسعها نفوذاً وأكثرها انتصاراً لمبدأ التعددية الايديولوجية بمختلف تلاوينها الايمانية واللاايمانية.