في حياتنا اليومية، هناك بعض المفردات المشحونة بكميات هائلة من السلبية، والمحملة بدرجات عالية من الخزي والعار، إلى درجة أن كثيراً ممن يؤمنون بها أو يمارسونها يكتمون إيمانهم بها. ومن أهم هذه المصطلحات الموشومة مصطلح (العلمانية)، التي منذ قرابة العقدين من الزمن أو ما ينيف، ونحن معتادون أن يشنف الخطباء آذاننا على منبر يوم الجمعة بتشكيلة واسعة من الدعوات المختارة بتدمير العلمانية ودك حصونها وسحق معتنقيها. العلمانية في الذهنية العامة حالة رفض للدين ودعوة للانحلال وإخراج المرأة دون حجاب في الشارع. لا يمكن أن نصف هذه الحالة التي تشكَّلت في وجداننا نحو العلمانية بالعقلانية أو العلمية، إذ إن ظروف تشكُّل كراهيتها كانت عاطفية خالية من المنطق والسبب. حتى نحكم على ظاهرة ما ونقيِّمها علينا أن نبحث عن معناها الفلسفي، ونشأتها التاريخية، وأهدافها السياسية، والظروف التي مرت بها، ثم الوظائف التي تقوم بها وتقدمها لنا دون موقف استباقي أو متحيز. وهذا ما سأحاول نقاشه في هذا المقال على مدار حلقتين. سأحاول أولاً تعريف العلمانية بشكل موجز، ثم أستعرض وأناقش بعض المواقف الأبرز في مجتمعنا إزاء العلمانية، ثم أتناولها من منظور سياسي وإمكانية تدخلها كحل لما يحدث اليوم في العالم العربي من فتن واضطرابات. هناك تعاريف كثيرة حول العلمانية، لكن لضيق المساحة سأكتفي بأحد أشهر هذه التعاريف وأوضحها، وهو فصل الدين عن الدولة. وفق الموسوعية العالمية ويكيبيديا، العلمانية «تعني اصطلاحاً فصل المؤسسات الدينية عن السلطة السياسية، وقد تعني أيضاً عدم قيام الحكومة أو الدولة بإجبار أي أحد على اعتناق وتبني معتقد أو دين أو تقليد معين لأسباب ذاتية غير موضوعية، كما تكفل الحق في عدم اعتناق دين معيّن وعدم تبني دين معيّن كدين رسمي للدولة. وبمعنى عام فإن هذا المصطلح يشير إلى الرأي القائل بأن الأنشطة البشرية والقرارات خصوصاً السياسية منها يجب أن تكون غير خاضعة لتأثير المؤسسات الدينية». يلاحظ على التعريف ملمحان رئيسان: الملمح الأول حالة الفصل بين المؤسسة الدينية والسياسية، بمعنى أن يقوم كل باختصاصه دون التدخل في قرار ورؤية الآخر؛ الملمح الثاني، حالة الرعاية التي تقدمها الدولة لكل مواطنيها على أساس المواطنة دون تمييز بينهم بناء على دينهم ومذهبهم. إذن فالعلمانية ليست حالة عداء أو حرب مع الدين، وإنما حالة تنظيم لمؤسسات المجتمع وتوضيح لأدوارها واحترام للتنوع الديني والمذهبي، الناتج باختلاف الثقافات الفرعية في المجتمع. ثَمة مواقف ثلاثة في ثقافتنا المحيطة تمثل اتجاهات متباينة حول التعاطي مع العلمانية (الموقف الرافض، الموقف المتوجس، الموقف المتصالح). الموقف الأول وهو الأكثر حضوراً وتأثيراً في الوعي الشعبي، موقف المدرسة الدينية، التي رأت العلمانية صنواً للفسوق، وحالة انسلاخ من الدين، وأمثلة هذا النموذج في الخطاب الديني أكثر من أن تُحصى، وببحث بسيط في جوجل نرى أشكالاً وأصنافاً من الفتاوى حول فساد العلمانية، وحربها للدين، وإباحيتها، وشهوانيتها. على سبيل المثال يقول الشيخ بن جبرين –رحمه الله- في فتوى له بموقع طريق الإسلام http://ar.islamway.net/fatwa/29763 حين سُئل عن العلمانية وما حكم الإسلام في أصحابها؟ أجاب الشيخ رحمه الله: « (العَلمانية): مذهب جديد وحركة فاسدة، تهدف إلى فصل الدين عن الدولة والإِكْبَاب على الدنيا والانشغال بشهواتها وملذاتها، وجعلها هي الهدف الوحيد في هذه الحياة، ونسيان الدار الآخرة والغفلة عنها، وعدم الالتفات إلى الأعمال الأخروية، أو الاهتمام بها». أما سفر الحوالي فيزيد على هذا ليجعلها نقضاً للدين من أساسه، إذ يقول في موقعه على الشبكة العنكبوتية: «إن العلمانية -كما عرضناها في الأبواب السابقة تفصيلاً- لا تستدعي في حقيقة الأمر كبير جهد لبيان تناقضها مع دين الله تعالى (الإسلام)». الموقف الثاني أقل مباشرة في رفضه العلمانية من النموذج الأول، لكنه لا يزال خائفاً منها يترقب، ويتناولها بشيء من التحليل والتفصيل. وخير من يمثل هذا الموقف الدكتور عبدالوهاب المسيري -رحمه الله- في مؤلف (العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة). من أبرز ما جاء في مؤلف المسيري المكون من جزئين تمييزه بين نموذجين من العلمانية: النموذج الجزئي البسيط، ويعني فصل الدين عن الدولة، والنموذج الشامل أو ما سماه المسيري ب«البنيوي» الذي يراه حالة أعمق من النوع الأول وتعني تحول المرجعية الأخلاقية لدى الإنسان من إطار ديني أخلاقي إلى إطار مادي طافح يتحول فيه الإنسان إلى سلعة أو مجرد شيء لا قيمة له. حالة يصبح المجتمع فيها مقوضاً خالياً من قيمه الروحية والإنسانية. ولا يرى المسيري إشكالاً في النموذج الأول الجزئي (فصل الدين عن الدولة)، بل يراه نموذجاً موجوداً في كل المجتمعات البشرية ويتشكل تلقائياً حتى في المجتمعات البدائية. حين تختار قبيلة بدائية رئيساً ورجل دين أو كاهناً، فليست هذه التوزيعات، في رؤية المسيري، سوى أشكال من النموذج العلماني الجزئي البسيط. وعلى هذا، فيبدو أن المسيري لا يرى مشكلة في إبعاد آراء رجال الدين، على سبيل المثال، عن القرار السياسي، لأن هذا ليس شأنهم. لكن هاجس المسيري وخوفه يكمن في النموذج الثاني، الشامل أو البنيوي، الذي تتحول فيه العلمانية من أنشطة وسلوكيات واضحة ومحددة إلى تشكلات بنيوية عميقة في وجدان المجتمع، ليخسر الإنسان قيمته وروحانيته. يذهب المسيري بعيداً في التفصيل بمظاهر العلمنة البنيوية، متجاوزاً مسألة الفصل بين الدين والسياسة، ليرى أن أمراً كالمنتجات الحضارية اليومية كلبس قميص مكتوب عليه مثلاً «اشرب كوكاكولا» من أهم آليات العلمنة الشاملة البنيوية الكامنة… وهي عملية توظيف تفقد المرء هويته وتحيّده بحيث يصبح منتجاً بائعاً (الصدر كمساحة) ومستهلكاً للكوكاكولا (هذا مع العلم بأن الكوكاكولا ليست محرمة)، أي أن ال(تيشيرت) أصبح آلية كامنة من آليات العلمنة. ومع هذا لا يمكن القول بأن كثيرين يدركون ذلك. ص (26)، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، المجلد الأول، دار الشروق، الطبعة الأولى، 2002. وعلى الرغم من وضوح المسيري وقدرته على الإقناع حين ناقش النموذج العلماني الأول البسيط، إلا أن نقاشه الطويل للنموذج الثاني، البنيوي، كان غائماً إلى حد كبير ومثيراً لكثير من التساؤولات النقدية. فتعميق المفهوم العلماني ليتجاوز النموذج القائم على فصل المؤسسات، متحولاً إلى طاحونة مادية تسحق قيم الإنسان وتُشَيّئَه (جعله مجرد شيء) يحتاج إلى ربط أقوى وتحييث أكثر إقناعاً وضوحاً. ليس من السهولة أن نقوم بربط ما حل بالإنسان بعد النهضة الصناعية في أوروبا من تطور مادي ملموس جعله كائناً مستهلِكاً ومستهلَكاً بالمادة، بشماعة العلمانية وحدها دون غيرها من المفاهيم الحضارية والفلسفية الأخرى، كمفاهيم الحداثة وما بعد الحداثة والتطورات الصناعية الاقتصادية ثم التكنولوجية المذهلة. ثم إن القول بأن قيم الإنسان آخذة في التحطم والتلاشي والضمور بناء على استبدال النموذج الديني بالنموذج العلماني أمرٌ فيه نظر، وقابلٌ للنقض والجدل. إذا كان المسيري ينظر للعلمانية البنيوية على أنها نموذج نزع الإنسان من قيمه، فإن النموذج الديني الأوروبي، الذي كان مسيطراً قبل النموذج العلماني، لم يكن منزوع القيم وحسب، بل كان أداة فتك بالإنسان، وحوَّل الشعوب الأوروبية إلى مشاريع من المجازر الجماعية، التي بدا بها الرجل الأوروبي كأضحية بخسة الثمن، يراق دمها لأبسط سبب، (بروتستانتي أو كاثوليكي). لم تتوقف أنهار الدماء في أوروبا إلا بعد أن تشبعت الدول الأوروبية من المذابح البشعة بسبب النموذج الديني القائم على التفرقة المذهبية، ولم تحقن الدماء في أوروبا ويتم احترامها إلا بعد تطبيق النموذج العلماني، وهذه قضية أشار إليها المفكر اللغوي ستيفين بينكر Steven Pinker بدعم إحصائي في إحدى محاضراته، على «يوتيوب». كما أن هناك دولاً من حولنا أظهرت أن الدولة قادرة على الجمع بين الدين كخيار شعبي والعلمانية كخيار سياسي دون تنافٍ أو تضارب، كالنموذجين التركي والماليزي، وهو ما يعني أن دعوى تغلغل العلمانية في الوجدان الشعبي لتستأصل منه قيمه الدينية والروحية، زعم ليس بالضرورة صحيحاً. الموقف الثالث براجماتي متصالح مع العلمانية ويركز على نقاط الفاعلية والوضوح في النموذج العلماني. ومن أمثلة الداعين إلى هذا النوع د. سعد الصويان أستاذ علم الاجتماع السابق في جامعة الملك سعود، الذي حاول التوفيق بين المفهوم العلماني والمظلة الدينية، وأوضح أنه من الممكن المزاوجة بينهما، دون ضرورة مجابهة عسكرية. يقول الصويان في برنامج إضاءات الذي بث بتاريخ 2008/4/25 بأنه لا مشكلة للدين مع العلمانية، وهاجم الموقف الأول، المعادي للعلمانية، مشيراً إلى أن سبب رفضهم وعدائهم الشديد للعلمانية ليس لسوئها أو إشكالات فيها، وإنما لخوف رجال هذا النموذج على مكتسباتهم وسحب بساط التحكم واتخاذ القرار في المؤسسات الثقافية والاجتماعية من تحت أرجلهم، بعد أن يتم حصرهم في تخصصهم الشرعي وحسب. وهكذا نجد أنفسنا أمام ثلاثة مواقف من العلمانية، الموقف الرافض على أسس دينية، والموقف الأقل رفضاً المتوجس منها على أسس فلسفية، والموقف المتصالح على أسس براجماتية. وعلى الرغم مما تحتويه هذه المواقف من حجج وحيثيات كثيرة ومتنوعة حيال العلمانية رفضاً أو تأييداً، فإن المواقفين الأول والثاني، بالذات، فشلا في ملامسة كنه العلمانية والوصول إلى حقيقتها ومبدئها الفلسفي الذي منه نشأت وعليه تطورت. أعني بهذا قيمتي «الحرية، العدالة» اللتين كانتا النفخة الأولى التي بلورت فكرة العلمانية وشكلتها نموذجاً صارماً ضد التعسف والظلم الذي كان يمارس من قِبل الكنيسة في أوروبا على عامة الشعب. كيف هذا؟ وما علاقة العلمانية المحملة بقيمتي الحرية والعدالة بما يحدث اليوم في العالم العربي من فوضى سياسية واقتتال ديني ومذهبي؟ هذا ما سأحاول طرحه ونقاشه في مقالي القادم بحول الله.